الصواريخ الروسية: حرام على تركيا حلال على اليونان؟

ما إن تهدأ الأمور بين أنقرة وأثينا لفترة زمنية قصيرة حتى يعود التوتر إلى سابق عهده وبنبرات تصعيد سياسي وعسكري وإعلامي أشد. أسباب الخلافات والتباعد معروفة وفيها الكثير من الخصومة التاريخية والسياسية والعقائدية الثنائية والإقليمية. ورغم محاولات الغرب ضم الطرفين تحت مظلة عسكرية دفاعية أطلسية واحدة، وفتح الأبواب أمامهما أوروبيا وأميركيا في شراكات استراتيجية البعد، إلا أن التناحر وحالة الاستنفار الدائم على كافة الجبهات لم تتوقف يوما.

يعتبر الرئيس الروسي فلادمير بوتين الأسعد بين الفرحين للتوتر التركي اليوناني الأخير. فالتصعيد في ذروته وينتقل تدريجيا من أزمة كلاسيكية تعودنا عليها منذ عقود بين أنقرة وأثينا إلى مشكلة تركية أميركية وتركية أطلسية بامتياز. لماذا بوتين؟ لأن السبب الأول والحقيقي للأزمة التي تفجرت مؤخرا هو لجوء اليونان إلى تفعيل منصة صواريخ إس 300 الروسية التي اشترتها قبل 23 عاما من موسكو ضد مقاتلات إف 16 التركية التي اشترتها أنقرة من واشنطن قبل عقود.

لم يبع الغرب أنقرة الأسلحة الصاروخية البعيدة المدى التي كانت تحتاجها لسد ثغرة كبيرة في منظومتها الدفاعية. كان يتركها تحت رحمة منظومة “الباتريوت” ينقلها إلى الأراضي التركية ساعة يشاء ويسحبها من هناك كما يشاء. اشترت تركيا الصواريخ الروسية فغضبت واشنطن ولم تهدأ حتى اليوم. وكانت أميركا تردد أن شراء تركيا لصواريخ إس 400 يتعارض مع البنية العسكرية لحلف الأطلسي ويعرضها للخطر. هل ستقول واشنطن كلاما مشابها لأثينا التي فعلت منظومتها من طراز إس 300 الروسية ضد مقاتلات إف 16 الأميركية في سماء بحر إيجه قبل 10 أيام؟

قبل أيام فقط من انطلاق احتفالات “يوم النصر” الذي يحييه الأتراك منذ مئة عام وحتى اليوم ويمثل إخراج القوات اليونانية من إزمير وإيجه والغرب التركي عاد التراشق الإعلامي والسياسي المصحوب بتصعيد عسكري ميداني بين أنقرة وأثينا إلى ذروته المواكب للكثير من المؤشرات الساخنة:

– تحرش رادارات صواريخ إس 300 الروسية التي اشترتها أثينا من موسكو بمقاتلات إف 16 الأميركية التي اشترتها تركيا من واشنطن، مما هدد بانفجار أمني عسكري في 23 آب المنصرم فوق مياه بحر إيجه. وزير الدفاع التركي خلوصي أكار وصف ما جرى بعملية استفزاز يوناني واضح بمقاتلات تركية أثناء قيامها بمهام ضمن إطار حلف شمال الأطلسي، مؤكداً ضرورة إزاحة الستار عما تقوم به “الجارة السيئة” وأنه “لا يمكن قبول هذا القدر من التهور والعربدة العلنية”.

 – توتر بين أنقرة وحلف شمال الأطلسي في أعقاب نشر ثم حذف وبعدها تعديل تهنئة وزعتها القيادة البرية للحلف في 30 آب المنصرم بمناسبة الذكرى المئوية لعيد النصر التركي على القوات اليونانية قبل مئة عام في معركة دوملو بينار وإخراج القوات اليونانية من الأناضول، نتيجة اعتراض أثينا على مضمون رسالة التهنئة. ودخول بيان وزارة الدفاع التركية على الخط منتقدا الخطوة الأطلسية “التي لن تغير في حقيقة انتصار الجيش التركي عام 1922 سواء أقبل ذلك حلف الأطلسي أم لم يقبله”.

– تراشق سياسي بين أنقرة وأثينا بعد دعوة رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتشوتاكيس الكونغرس الأميركي إلى دعم بلاده في مواجهة السياسة التركية في بحرَيْ إيجة وشرق المتوسط، ومطالبته واشنطن بعدم الموافقة على صفقة مقاتلات “إف 16” مع أنقرة، ورد أردوغان الناري “لم يعُد هناك شخص اسمه ميتشوتاكيس بالنسبة إليّ”.

– تصريحات سياسية أخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان “موجودون اعتبارا من الآن بمسيراتنا وطائرات أقينجي، ومروحيات غوك بي، وبأسلحتنا هذه فإننا البلاء المرعب لأعدائنا في العالم”.

– إعلام يوناني يردد أن أثينا وضعت خططا “احترازية” ضد المسيرات التركية عبر التواصل السري مع إسرائيل وإقرار شراء مسيرات أميركية من طراز “إم كيو-9″، والإعداد لتصنيع مسيرات محلية.

– ومطالبات يونانية بسد العجز الحاصل في توازنات منظومة الدفاعات العسكرية لصالح تركيا حيث إن اليونان لا تمتلك تجهيزات حربية إلكترونية كافية، لمواجهة القوات التركية في حال نشوب أية مواجهة عسكرية مع تركيا.

اقرأ أيضا

مع تراجع حسابات العملات الأجنبية والودائع المحمية ……

 – إعلان وزير الدفاع التركي أكار الذي حلق بنفسه في مقاتلة من طراز اف 16 في سماء بحر إيجه قبل ساعات، إن بلاده ردت وسترد دائما على العجرفة التي تمارسها اليونان وعمليات الاستفزاز العدوانية وخطاباتها وتحركاتها غير الشرعية، مطالبا اليونان بعدم خوض مغامرات من شأنها أن تودي بها إلى الهزيمة، وأن تستخلص الدروس من التاريخ.

 – دون أن نغفل مسألة إنزال سفينة التنقيب التركية الخامسة “عبد الحميد خان” إلى مياه المتوسط قبل أسبوع للقيام بمهامها في إطار تحويل تركيا إلى دولة منتجة للغاز مثل العديد من الدول المتشاطئة في شرق المتوسط.

تواجه أنقرة التي تحاول تعديل سياستها الإقليمية خصوصا في شرق المتوسط منذ عامين انحيازا أميركيا واضحا إلى الجانب اليوناني عبر إنشاء العديد من القواعد العسكرية البحرية والبرية على مقربة من حدودها تحت ذريعة التصدي للتمدد الروسي في المنطقة. لكن اليونان أسقطت ورقة استراتيجية مهمة بيد واشنطن كانت تلعبها منذ 3 أعوام ضد أنقرة بعد شرائها لمنظومة صواريخ إس 400 الروسية، وذلك بتحريكها رادارات صواريخ إس 300 التي تمتلكها ضد المقاتلات التركية في سماء بحر إيجه قبل 10 أيام. ما الذي ستقوله إدارة بايدن لأثينا التي استهدفت بسلاح روسي المقاتلات التركية الأميركية الصنع وهي تقوم بمهام أطلسية مشتركة؟

حرب تركية يونانية بسلاح روسي وأميركي تم تجاوزها في آخر لحظة لكن الجرة لن تسلم كل مرة.

حتى ولو قيل لنا في واشنطن وباريس ولندن إن التصعيد ممكن أما التصادم فهو ممنوع، فموسكو هي اللاعب الإقليمي الجديد على خط التوتر التركي اليوناني هذه المرة وبمقدورها أن تصب الزيت فوق النار لتأجيجها عندما ترى ضرورة في ذلك.

تراهن أميركا على دخولها العسكري الواسع إلى إيجه والمتوسط عبر الشراكة الاستراتيجية الجديدة مع اليونان، لكن موسكو هي من يخترق ساحة اللعب الأميركية بعد نجاحها في بيع منظومتها الصاروخية لأنقرة وأثينا على السواء والتوغل في ساحة النفوذ الأطلسية مباشرة. بوتين هو اليوم من يحارب النفوذ الغربي عبر شركاء من داخل البيت مثل تركيا واليونان. وأثينا لن تصمد طويلا أمام الضغوطات التركية حتى ولو حاولت الاحتماء أو الاستقواء بواشنطن التي قد تتخلى عنها عندما تشعر أن الصفقة والمقايضة مع أنقرة أهم وأربح لها خصوصا بعد التطبيع التركي الإسرائيلي في شرق المتوسط. تل أبيب تريد إيصال غازها إلى أوروبا عبر تركيا. والعرض الروسي التركي لإسرائيل واليونان بالشراكة ما زال قائما رغم الحرب في أوكرانيا والتوتر التركي اليوناني والتنسيق الأميركي اليوناني. تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أيام حول ضرورة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع روسيا، رسالة فرنسية بطابع استراتيجي تعني واشنطن قبل غيرها في التعامل مع الملفات الإقليمية.

يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن اليونان تحدَّت الناتو عبر مواقفها العدائية لبلاده؛ لكنها “ليست نداً لتركيا على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية”. لكن الذي ينتظره أردوغان هو معرفة الرد الذي ستبديه الولايات المتحدة على تفعيل اليونان منظومات إس 300 الروسية ضد قوة جوية في الناتو وهي تقوم بمهام مشتركة بالتنسيق مع الحلف؟

وهل سيتبنى الأطلسي موقفا مشابها لأميركا في التأزم التركي اليوناني وينجرف وراء الرغبة الأميركية أم سيتعامل بجدية مع ما ستقدمه أنقرة من وثائق ومستندات حول ما جرى يوم 23 آب المنصرم في سماء بحر إيجه؟

الكرة في الملعب اليوناني فما الذي ستختاره أثينا: التفجير العسكري والأمني والسياسي الواسع مع تركيا مستقوية بالموقف الأميركي عبر الإقدام على لعب ورقة توسيع مساحة مياهها الإقليمية من 6 أميال إلى 12 وهو ما ترى فيه أنقرة سببا لإعلان الحرب على اليونان؟ أم ستصغي إلى ما تردده القيادات التركية حول الدعوة إلى العقلانية والواقعية والبحث عن صيغة توافقية في التعامل مع ملفات إيجه وشرق المتوسط حتى ولو واصلت خطط التسليح الحربي والصفقات التي تعقدها مع العديد من الدول الإقليمية والغربية لتحديث وتطوير منظومتها العسكرية؟

بواسطة / سمير صالحة 
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.