بكل تأكيد التاريخ دائمًا يعيد نفسه. من الذي كتبه؟ من أجل ماذا يُكتب؟ ما هي الاهتمامات والأسئلة المصحوبة عندما كُتب التاريخ؟
تقودنا تلك التساؤلات إلى إعادة كتابة التاريخ الذي نعرفه بطريقة مختلفة لكن ليس من الطبيعي أن تتنوع المعلومات ووجهات النظر التاريخية. ومن خلال النظر في الوثائق ووجهات النظر التاريخية والمعطيات الموجودة، نتمكن حينها من كتابة قصة مختلفة. إلى الآن كل شيء طبيعي ويمكن لوجهات النظر التاريخية المختلفة أن تُناقش في سباق الوثائق.
تحول التاريخ إلى مسألة انتهازية سياسية دون الاستناد إلى حقائق وعن جهل من قبل أولئك الذين يعملون في منصب التمثيل السياسي، فهم يأخذون الحدث إلى مكان مختلف تمامًا.
فالكلمة التي ألقاها رئيس بلدية إزمير في الاحتفال الذي جرى تنظيمه بمناسبة مئوية التحرير يشبه قصة سيدنا نوح عليه السلام ، عندما أراد رمي ابنته في البئر ونزل إليه من السماء ماعز.
التصريحات التي أدلى بها رئيس بلدية إزمير باسم الكمالية لا علاقة لها لا بالكمالية ولابمصطفى كمال أتاتورك ولا بحرب الاستقلال ولا بأي مصدر تاريخي صحيح سواء في مصادر الأعداء أو الأصدقاء.
من جهة أخرى، يعد تحرير إزمير أحد أهم الأحداث التأسيسية للتاريخ الكمالي. وهناك أيضًا أحداث دعمت ذلك التاريخ كحادثة إلقاء اليونانيين في البحر، والتي تعتبر من أهم الأحداث في النشأة الكمالية.
فكل هذه الأحداث تؤكد حقيقة أن اليونانيين هم العدو الرئيسي.ولكن في الوقت نفسه فإن تلك الأحداث قابلة للنقاش وقد نوقشت من قبل.
كانت التساؤلات الرئيسية التي تُطرح أن حرب الاستقلال التركية كانت ضد اليونانيين بدلاً من البريطانيين، الجهة الفاعلة الرئيسية، وأن الكبرياء والهوية التاريخية والوطنية نشأت من خلال هذه الحرب. ودائمًا تضع العقيدة التاريخية الكمالية اليونانيين وحدهم في خانة الأعداء دون التشكيك أو التساؤل حول ذلك الأمر.
حتى الحروب التي خضناها وانتصرنا فيها على البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى ليست مسألة احتفال حتى تكون موضوعًا للتاريخ. ولا أحد يعرف حتى وقت قريب، كيف جرى تغييب وجعل أمة بأكملها تنسى انتصار معركة كوت العمارة.
إن مسألة أن هناك جانب واحد من هويتنا الوطنية يستند إلى المشاعر المعادية لليونان وأن أساسنا يقوم على التحرر منها هو في الحقيقة أمر لا يتوافق مع العظمة التاريخية والوطنية لتركيا. ولكن كان لا بد من اتخاذ تفضيل هنا.
على الرغم من أن بريطانيا كانت القوة والحاكم الحقيقي للاحتلال والتي وقفت إلى جانب اليونان، إلا أنهم لم ينظروا إليها على أنها عدو آخر لهويتنا الوطنية.
كُتبت مسألة العداء اليوناني في التأريخ الكمالي لحماية الفاعل الرئيسي للاحتلال الذي تعرض له العثمانيون، وهو أمر مهم. احتل اليونانيين إزمير بمفردهم عبر قواتهم الخاصة، ولكن بريطانيا هي التي استدعتهم إلى إزمير وقدمت لهم الدعم. والحقيقة أن التأريخ الكمالي ذكر هذه الأحداث. لكن رئيس بلدية إزمير الكبرى يقرأ تاريخًا مختلفًا تمامًا في احتفال الذكرى المئوية حيث قال:
“كان ذلك قبل مئة عام.. أولئك الذين حكموا هذه الأرض (العثمانيين) وألقوا أمة بأكملها في النار فقط لحماية الحكم في قصورهم، فقد داسوا على كرامتنا الإنسانية، وشغفنا بالاستقلال، واستسلموا… وفي صباح أحد الأيام، احتل جنود البلدان الإمبريالية، بأحذيتهم وطموحاتهم القذرة، مياه خليجنا ومدينتنا الجميلة”.
لا يمكن تجاهل هذا الموضوع باعتباره وهمًا تحت التأثير المسكر لبيئة موسيقية وترفيهية مجنونة مع آلاف الشباب خلال الاحتفال. فهل تعتبر هذه هي الطريقة الوحيدة للخروج من هذا الموضوع؟
ربما يكون كذلك لأن هذا الأمر لا يمكن أن يوجد حتى في التأريخ الكمالي. وهذا يعني أن الوعي التاريخي باسم الكمالية تخطى نفسه وأصبح عابرًا للسياسة ، أو أنه انتهى من تلقاء نفسه، أو أنه يعود بطريقة عكسية.
كتب الفيلسوف الفرنسي الشهير “جان بودريلار” عن عملية مشابهة لذلك حدثت في عصر التنوير والحداثة والاقتصاد والفن: “تحولهم وانعدام المعنى لأنفسهم نابعًا من فائضهم وليس بسبب نقصهم”
لا نُفاجأ من أن حزب الشعب الجمهوري، الممثل الرسمي للأيديولوجية الكمالية، كان يلتهم كل شيء باسم إرث أتاتورك كما لو كان مرخصًا باسمه.
أي سلطة هذه التي ترتبط بعلاقات مع حزب الشعوب الديمقراطي المرتبط بتنظيم بي كا كا/بي واي دي وبتفويض أمريكي؟
نحن نشاهد مثالًا عن التطرف الظاهر باسم الكمالية، وكأنهم يرون بأن لديهم السلطة لتطوير المناطق الكمالية الأكثر حساسية وقدسية. والتاريخ الذي قرأه رئيس بلدية إزمير تونج صويار في خطابه ليس له علاقة بهذه السلطة.
لذلك أطلقنا عليها “عبر الكمالية” لأنها مثال على الهراء الذي لا يمكن تفسيره، حيث وصل التعصب الذي يظهر باسم الكمالية إلى نقطة اللامعنى التي تتجاوز الكمالية.
والجميع يعرف أن السلطان العثماني محمد وحيد الدين هو الذي أرسل مصطفى كمال إلى الأناضول وفوض إليه الصلاحيات ومده بالآليات والجنود، ما أدى إلى تحرير إزمير.
الصحفي التركي “مراد بردقجي” أشار إلى أن حرب الاستقلال نفسها كانت عملية تابعة للدولة العثمانية.
من أين يمكن أن تأتي دوافع الحقد على العثمانيين (الجهة الفاعلة في حرب الاستقلال ضد المحتلين)، وعدم ذكر اليونانيين بكونهم أعداء أو البريطانيين الذين وقفوا إلى جانبهم.