أطلق خفر السواحل اليوناني هذا الأسبوع النار على سفينة شحن تركية كانت تبحر في المياه الدولية في بحر إيجة. وقد كانت هذه أحدث الجولات في أزمة مستمرة يمكن أن تؤدي إلى اندلاع الحرب بين اليونان وتركيا، والبَلَدان عضوان في حلف الناتو.
وبحسب حسن غوغوس، السفير التركي السابق لدى اليونان: “لدينا عدة خلافات مع اليونان في بحر إيجة، مثل عرض المياه الإقليمية، وترسيم حدود الجرف القاري، ونزع السلاح من الجزر، وطول المجال الجوي”. وقد أضاف غوغوس: “في حين أن جميع القضايا مترابطة، إلا أن اليونان لا تعترف سوى بوجود نزاع على الجرف القاري”. وشدد غوغوس على أن “معظم الجزر اليونانية في بحر إيجة تقع بالقرب من البر الرئيسي التركي، مثل كاستيلوريزو أو كوس. وقد منحت هذه الجزر لليونان [بموجب معاهدة باريس للسلام عام 1947] بشرط نزع السلاح. لكن، اليونان تنتهك هذا الشرط”. أما اليونان فتدعي بدورها بأن تركيا هي التي تشكك بسيادتها وتنتهك مجالها الجوي.
ليس هذا التصعيد في أزمة بحر إيجة سوى أحدث حلقة في ملحمة القومية اليونانية العدوانية التي ابتليت بها المنطقة منذ بداية القرن التاسع عشر. فقد قامت القوى الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر برعاية وتحريض قومية يونانية معادية للعثمانيين والمسلمين، تركز على الأرثوذكسية المسيحية اليونانية. وستحاول القومية اليونانية المسيحية “استعادة” أراضي الإمبراطورية الرومانية الشرقية (المعروفة في الغرب باسم “بيزنطة”)، بما في ذلك القسطنطينية، التي كان يُنظر إلى إمكانية استردادها بعد سيطرة العثمانيين المسلمين عليها. كما قام الأوروبيون بمساعدة حركة انفصالية، قادها يونانيو الشتات آنذاك، على إنشاء الدولة الحديثة المعروفة باسم “اليونان” في عشرينيات القرن التاسع عشر، لكن الأوروبيين استمروا أيضاً في تشجيع ورعاية “الفكرة العظمى” لليونان ما بعد “استقلالها” التي تحض على التوسع الإقليمي (وتعرف باللغة اليونانية بمصطلح “إينوسيس”)، والتي شملت في أوائل القرن العشرين الاستيلاء على جزيرة كريت كما حدث في 1912-1913.
ليس هذا التصعيد في أزمة بحر إيجة سوى أحدث حلقة في ملحمة القومية اليونانية العدوانية التي ابتليت بها المنطقة منذ بداية القرن التاسع عشر. فقد قامت القوى الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر برعاية وتحريض قومية يونانية معادية للعثمانيين والمسلمين، تركز على الأرثوذكسية المسيحية اليونانية
أما أن القومية التركية الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى اضطرت إلى خوض ما أسمته بـ”حرب الاستقلال” للدفاع عن البلاد ضد الغزو اليوناني الأحدث للأراضي التركية في منطقة آسيا الصغرى عام 1919، وضد مخططات اليونان التوسعية للسيطرة على إسطنبول، فبالكاد جعل اليونانيين مقربين من قلوب القوميين الأتراك الذين كانوا للتو قد أطاحوا بالعثمانيين.
فعندما غزا اليونانيون تركيا عام 1919، زعموا علناً أنهم جاءوا كـ”حفظة سلام”، وأنهم يجلبون الحضارة إلى الشرق، كقناع عنصري لتوسعهم الإقليمي. وفي حقيقة الأمر، في عام 1920، أي قبل أن يجبرهم الأتراك على الانسحاب، كان أنصار رئيس الوزراء اليوناني إلفثيريوس فينيزيلوس (وأصله من جزيرة كريت وكان قد أصبح رئيس وزراء اليونان لأول مرة في عام 1910) من القوميين اليونانيين قد أشادوا به على أنه قد خلق يونان “القارتين والبحار الخمسة”.
وكان فينيزيلوس قد تآمر مع القائدين البريطانيين لويد جورج ووينستون تشرشل ضد العثمانيين في أواخر عام 1912. وكانت الخطة تتمثل في انضمام اليونان إلى التحالف البريطاني في الحرب العالمية الأولى، التي كانت على وشك الاندلاع، من أجل الاستيلاء على آسيا الصغرى، وفي المقابل وعد البريطانيون بمنحها جزيرة قبرص مقابل قواعد بحرية بريطانية دائمة تقام في الجزر اليونانية. وقد أراد لويد جورج (العاشق لكل ما هو يوناني وإغريقي) أن يخرج “التركي” من أوروبا “ولم يكن يريده حتى أن يحتفظ بالقسطنطينية”.
وقد تم الكشف عن الادعاءات التي قدمها اليونانيون بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر باريس للسلام بأن الأتراك كانوا يذبحون اليونانيين، وأن هذا الأمر هو الذي استدعى تدخل اليونان العسكري في تركيا، على أنها أكاذيب من قبل الممثل البريطاني في المؤتمر، وثبت أنها لم تكن أكثر من دعاية من جانب فينيزيلوس.
وبمجرد غزو القوات اليونانية تركيا، كان اليونانيون هم من بدأ في ذبح السكان الأتراك، الأمر الذي أدى إلى فرار مئات الآلاف من المسلمين الأتراك، وهو ما عجّل بهجوم القوميين الأتراك المضاد على الغزاة اليونانيين. أدت الحرب إلى هزيمة اليونان في عام 1922، وإلى نزوح سكاني مروع من مسيحيي تركيا إلى اليونان ومن مسلمي اليونان إلى تركيا، وهو ما عزز القومية اليونانية المتعصبة وغذّاها، ناهيك عن أثر ذلك على القومية التركية التي زاد تعصبها أيضاً.
وبالفعل، فقد أدى التواطؤ اليوناني مع القوى الأوروبية وروسيا ضد العثمانيين في بداية القرن التاسع عشر إلى حرب إبادة ضد المسلمين بين عامي 1821 و1922، عبر البلقان والقوقاز وجنوب روسيا، ما أدى إلى مقتل 5.5 ملايين مسلم وتشريد خمسة ملايين آخرين كلاجئين. وكانت الدوافع المسيحية الطائفية للثورة اليونانية قد أدت إلى مذابح ضد المسلمين في وقت مبكر، بداية من شبه جزيرة موريا في جنوب اليونان، حيث قُتل 15 ألف مسلم في آذار/مارس 1821، تلاهم قتل عدد أكبر في جميع أنحاء البلاد. وقد كان رد العثمانيين بالمثل، إن لم يكن أكثر وحشية، لا سيما في حالة جزيرة صاقيز (والتي تعرف اليوم باسم “خيوس”)، حيث تم ذبح عشرات الآلاف من المسيحيين الناطقين باليونانية.
لكن الثورة اليونانية هي التي “أرست نمطاً للثورات المستقبلية في البلقان” ضد العثمانيين، لا سيما فيما يتعلق بمجازر المسلمين (واليهود) و”سياسة إخلاء المناطق من سكانها الأتراك”، والتي بلغت حد التطهير العرقي/ الديني. فقد بدأت القومية اليونانية المعادية للمسلمين في تطهير جزيرة كريت من المسلمين عشية الحرب العالمية الأولى، ناهيك عن التطهير العرقي/ الديني للمسلمين المتحدثين بالتركية في قبرص، والذي بدأ في أوائل الستينيات واستمر في السبعينيات من قبل القبارصة اليونانيين القوميين المدعومين من اليونان، والذين سعوا إلى “الوحدة” مع البر اليوناني.
نظراً لوجود عدد أكبر من المتحدثين باليونانية الذين كانوا يعيشون في الدولة العثمانية أكثر مما كان عليه الحال في اليونان “المستقلة”، فقد حرص العدوان اليوناني المستمر على العثمانيين، باسم القومية الهيلينية/ اليونانية الجامعة، على عدم استمرار ذلك الوضع. ومن ثم توسعت اليونان من خلال الغزو والمكائد البريطانية الإمبريالية طوال القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين، حيث وضعت اليونان نصب أعينها جزر “دوديكانيز” (والتي تعني “الجزر الاثنتي عشرة” على الرغم من أن عدد الجزر الحقيقي هو 15 جزيرة)، المتاخمة للساحل التركي في بحر إيجة.
وقد كانت القوى الأوروبية قد بدأت في غزو الأراضي العثمانية في شمال أفريقيا مستغلين الضعف العسكري المتزايد للعثمانيين في القرن التاسع عشر، كما فعلت فرنسا في الجزائر عام 1830 ثم في تونس في عام 1881، وكما فعل الإيطاليون عندما غزوا ليبيا عام 1911 واحتلوها وجعلوها مستعمرة- استيطانية إيطالية كما غزوا واحتلوا “جزر دوديكانيز”، بما في ذلك جزيرة رودوس قبالة الساحل التركي، والتي احتلوها لغاية الحرب العالمية الثانية، عندما قام البريطانيون باحتلالها بعد هزيمة الإيطاليين. وبدلاً من إعادة الجزر إلى تركيا بعد الحرب، سلمها البريطانيون لليونان رغم اعتراضات تركيا. وفي عام 1947، أبرمت اليونان معاهدة باريس للسلام مع إيطاليا المهزومة، والتي منحت اليونان السيادة على الجزر، وهكذا تم ضم هذه الجزر إلى اليونان.
لقد كان يُنظر إلى اليونان بعد عام 1975 على أنها صديقة للشعب العربي نظراً لصداقتها في ذلك الوقت مع الفلسطينيين، لدرجة أن الدول العربية وقفت إلى جانب قبرص المعادية للمسلمين ضد تركيا الموالية لإسرائيل في ذلك الوقت، والتي غزت قبرص بدورها للدفاع عن المسلمين القبارصة المتحدثين بالتركية لحمايتهم من المجازر التي كان يرتكبها القبارصة اليونانيون بحقهم. وارتكبت هذه المجازر في أعقاب انقلاب نظمه النظام العسكري في اليونان ضد الحكومة القبرصية في عام 1974، وأطلق العنان للعنف ضد المسلمين الأتراك القبارصة.
في السنوات الأخيرة، وفي سياق تحول العديد من الحكومات اليونانية للالتحاق بسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية المعادية للعرب والمسلمين، وسعت اليونان عرض مياهها الإقليمية، وطول مجالها الجوي، وعسكرة جزر دوديكانيز، والتعدي على المياه الإقليمية والمجال الجوي لتركيا. تم تنفيذ ذلك في سياق تحالف اليونان العسكري والسياسي الدافئ مع إسرائيل
في السنوات الأخيرة، وفي سياق تحول العديد من الحكومات اليونانية للالتحاق بسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية المعادية للعرب والمسلمين، وسعت اليونان عرض مياهها الإقليمية، وطول مجالها الجوي، وعسكرة جزر دوديكانيز، والتعدي على المياه الإقليمية والمجال الجوي لتركيا. تم تنفيذ ذلك في سياق تحالف اليونان العسكري والسياسي الدافئ مع إسرائيل منذ عام 2010، وأعمالها المناهضة لإيران بأمر من أسياد اليونان الأوروبيين والأمريكيين، حيث احتجزت اليونان في نيسان/ أبريل الماضي سفينة إيرانية نيابة عن الولايات المتحدة، التي صادرت بدورها شحنة النفط التي كانت على متن السفينة. وفي حزيران/ يونيو، ردت إيران باحتجاز سفينتين يونانيتين في الخليج أفرجت عن طاقمهما هذا الأسبوع.
وقد أثارت العدوانية اليونانية الأخيرة، المقترنة بمناشدة رئيس الوزراء اليوناني الحالي كيرياكوس ميتسوتاكيس الولايات المتحدة عدم بيع أسلحة لتركيا (وهو عمل يذكرنا بمؤامرة فينيزيلوس مع لويد جورج عشية الحرب العالمية الأولى) في أيار/ مايو الماضي، غضب تركيا العدوانية بدورها. ولكن بغض النظر عن تحالف تركيا المستمر مع حلف شمال الأطلسي والغرب وتقاربها الأخير مع حليفتها طويلة الأمد إسرائيل، فإن عداءها لليونان كان دائماً نتيجة للتهديدات التي لا تزال القومية اليونانية المتعصبة المعادية للمسلمين تشكلها للمنطقة بأسرها.
في ضوء هذا التاريخ، أصبح يمكن أن يُنظر إلى اليونان بعد عام 2010 بشكل متزايد على أنها ليست فقط عدو الأتراك والمسلمين فحسب، بل أيضاً عدو الفلسطينيين والعرب عموماً.