بعد سنوات من الهدوء، هز إسطنبول يوم الأحد الماضي تفجير ضخم قالت السلطات التركية إنه كان نتيجة حقيبة متفجرة وضعتها سيدة في شارع الاستقلال بمدينة إسطنبول، موجِّهة أصابع الاتهام لحزب العمال الكردستاني.
مكافحة الإرهاب
أُسّست منظمة حزب العمال الكردستاني في 1978 وبدأت العمل العسكري ضد تركيا عام 1984 بهدف الانفصال وإنشاء دولة كردية، ولذلك تصنفها أنقرة منظمة إرهابية انفصالية. وقد كلفت هذه المواجهة تركيا على مدى 4 عقود أكثر من 30 ألف إنسان، وخسائر اقتصادية ومالية قدّرت بزهاء 500 مليار دولار، فضلًا عن كونه ملفًّا يفتح الباب على التدخلات الخارجية ويهدد السلم الأهلي والنسيج المجتمعي.
بعد محاولة دامت سنوات مع العمال الكردستاني في عهد العدالة والتنمية، انهارت عملية التسوية في 2015 واستأنف الكردستاني عملياته ضد تركيا، تأثرًا بالتطورات في سوريا وأملًا بأن حلم الدولة قد اقترب. وقد تعرضت تركيا في العامين 2015-2016 لعدد كبير من التفجيرات والعمليات الإرهابية، فضلًا عن خوضها حرب مدن في مناطق الأغلبية الكردية في الجنوب والجنوب الشرقي؛ بعد إعلان “إدارات ذاتية” فيها قبل أن تفرض الأمن فيها بالقوة.
ومنذ ذلك الوقت طوّرت أنقرة أدواتها وإمكاناتها في مكافحة الإرهاب، واعتمدت منطق الحرب الاستباقية و”تجفيف الإرهاب في منابعه” بالتزامن مع توجه سياستها الخارجية منذ 2016، أي بعد الانقلاب الفاشل، نحو اعتماد القوة الخشنة بشكل ملحوظ. وهكذا، نفذت تركيا داخل سوريا والعراق سلسلة من العمليات الناجحة التي قضت على فكرة الدولة الكردية في سوريا من جهة، ووجهت ضربات موجعة للعمال الكردستاني في معاقله في العراق من جهة ثانية.
وبنتيجة كل ما سبق، عاشت تركيا حالة من الأمن والهدوء منذ 2016 في غياب تام للتفجيرات والعمليات الإرهابية، حتى كانت صدمة الهجوم الأخير في إسطنبول.
تفجير إسطنبول
يبدو أن من خطّط لتفجير إسطنبول الأخير اختار المكان والزمان بعناية، فاستهدف الشارع الأكثر اكتظاظًا في كل تركيا وأحد معالم إسطنبول السياحية الأهم الذي يرتاده يوميًّا مئات الآلاف بين أتراك وأجانب؛ شارع الاستقلال في حي تقسيم في قلب إسطنبول. كما اختار يوم الإجازة، الأحد، في وقت ذروة وجود الناس فيه، عصرًا، ليكون الهجوم دمويًّا وذا صدى.
سريعًا، كشفت السلطات التركية عن ملابسات العملية التي نفذت عبر حقيبة متفجرة تركتها سيدة في الشارع، قبل أن تعلن إلقاء القبض على السيدة وعدد من أفراد الخلية التي نفذت الهجوم. قال وزير الداخلية التركية سليمان صويلو إن السيدة تلقت التعليمات من عين العرب/كوباني، ودخلت تركيا من عفرين، وهما مدينتان لهما رمزية وأهمية للعمال الكردستاني وأفرعه السورية، وذلك أوحى بأن تقديرات أنقرة تشير إلى مسؤوليته عن الهجوم.
ولذلك لم تحفل أنقرة كثيرًا بنفي الكردستاني مسؤوليته عن العملية، ووضعتها فيما يبدو في إطار محاولته تجنب الارتدادات السلبية عليه داخليا في تركيا، وكذلك على صعيد ردود الفعل التركية ضده في كل من سوريا والعراق، فضلا عن أن له سوابق بالتنصل من بعض العمليات، وعمليات أخرى تبنّتها مجموعات محسوبة عليه أو تدور في فلكه أو حتى مجموعات وهمية حين لا يرغب بالتبنّي المباشر للهجمات.
لا يمكن الجزم بمن يقف خلف الهجوم قبل استكمال التحقيق وخروج رواية رسمية تركية متكاملة، لكن يبقى العمال الكردستاني “المشتبه به المعتاد” في هذا النوع من العمليات، رغم أن الهجوم الأخير مختلف كثيرًا عن هجماته المعتادة لجهة استخدام حقيبة متفجرة ضد أهداف مدنية في منطقة مكشوفة أمنيًّا، وهو ما يترك الباب مفتوحًا على احتمالات تورط أطراف أخرى.
ولذلك، لا يبدو أن منطق “المصلحة” يصلح إطارًا تفسيريًّا للهجوم، وإنما منطق توجيه “رسالة” لتركيا بما يرتبط بسياق التطورات الأخيرة. وإذا ما كان الكردستاني يقف فعلًا خلف الهجوم الأخير، فثمة تطورات تشي بدوافعه. ذلك أن حزب العدالة والتنمية الحاكم كان قام في الأيام القليلة الماضية بخطوتين لافتتين تجاه حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يُنْظر له كواجهة سياسية للكردستاني؛ فقد زاره وفد رفيع برئاسة وزير العدل لطلب دعمه للتعديلات الدستورية التي ينوي الحزب الحاكم التقدم بها للبرلمان بخصوص حرية الحجاب والأسرة، كما سمحت السلطات التركية للرئيس الأسبق للشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش بالخروج من السجن لزيارة سريعة لوالده الذي عانى من أزمة قلبية.
ومن ثم، يبدو أن هناك من قرأ الأمر من زاوية الانفتاح النسبي للعدالة والتنمية على الشعوب الديمقراطي لتأمين مرور التعديل الدستوري وكذلك مغازلة ناخبي الشعوب الديمقراطي ومحاولة كسبهم، فأراد أن يفجر هذا المسار وينهيه في بداياته.
آفاق مستقبلية
الدافع الآخر للهجوم، إذا ما كان خلفه العمال الكردستاني، هو محاولة التأثير على مسار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الوشيكة في تركيا، في محاولة للإضرار بحالة الأمن والاستقرار، وإظهار الحكومة كأنها عاجزة عن منع الهجمات، والتأثير على شعبية الرئيس والحزب الحاكم، فضلًا عن اللعب على وتر التحالفات الانتخابية المحتملة، ويضاف إلى كل ذلك الإضرار بالاقتصاد والسياحة في البلاد وهما مدخلان مهمان للانتخابات المقبلة.
حرص المسؤولون الأتراك على تقديم رسالة ضمنية باستتباب الأمن والاستقرار في البلاد والسيطرة على الأوضاع بعد الهجوم، ولذلك حضر نائب الرئيس مع عدد من الوزراء في الشارع المستهدف مباشرة، ولم يلغ أردوغان أو حتى يؤجل سفره إلى إندونيسيا للمشاركة في قمة مجموعة العشرين.
كما أن تصريحاتهم، وعلى رأسهم أردوغان، ركزت على فكرة أن تركيا لم تعد “تركيا القديمة التي توجّه لها الرسائل بهذه الطريقة”، وأن هذا النوع من العمليات لن يؤثر عليها أو يجعلها تحيد عن مسارها الذي اختطّته لنفسها، فضلًا عن التوعد بمحاسبة المتورطين وجعلهم يدفعون الثمن. وهي تصريحات موجهة للخارج كما للداخل سواء بسواء، إذ هناك من يربط بين سياسة تركيا الخارجية ومحطاتها وإنجازاتها الأخيرة وبين محاولات الضغط عليها بعصا الإرهاب.
في النتائج، وبالنظر إلى الفاصل الزمني حتى الانتخابات المقبلة والذي يقدر بزهاء 7 أشهر، لا يتوقع أن يكون للهجوم الأخير تأثير كبير و/أو مباشر عليها حتى إن كان له تأثير نسبي مؤقت اليوم في شعبية الرئيس والحزب الحاكم إيجابًا او سلبًا.
فإذا ما كان هذا الهجوم عملًا منفردًا ووحيدًا ووقف الأمر عنده، ليس من المنتظر أن تكون له تداعيات داخلية مهمة لا سيما على صعيد الانتخابات. بينما إذا ما تكرر هذا النوع من الهجمات فيمكن أن يكون له تأثير على شعبية الرئيس والحزب الحاكم من زاوية مدى القدرة على كشف الهجمات ومنعها ثم كشف ملابساتها ثم جهود المكافحة، وكذلك على شعبية الأحزاب الأخرى من زاوية مواقفها وتصريحاتها وتفاعلها مع الأحداث.
ردود الفعل التركية المتوقعة تتراوح بين سرعة الكشف عن ملابسات الهجوم كافة وتقديم رواية متكاملة للشارع التركي، واستهداف أي أطراف أو أشخاص على علاقة به بما في ذلك شخصيات قيادية في تنظيمي العمال الكردستاني أو وحدات الحماية وقصف معاقلهما ومستودعاتهما ومراكزهما في كل من سوريا والعراق.
لكن السؤال الأهم الذي ينتظر الإجابة هو ما إذا كان الهجوم سيدفع تركيا نحو عملية عسكرية في الشمال السوري طالما لوّحت وهددت بها، وهو خيار مطروح على الطاولة منذ شهور، لكنه ينتظر الظروف الأمثل ميدانيًّا وسياسيًّا. تقديرنا أن تركيا قد تلجأ إلى عملية عسكرية من هذا النوع في شمال سوريا إذا ما تأكد لها أن وحدات الحماية تحديدًا ضالعة في الهجوم، وخصوصًا إذا ما كان هناك إعداد لهجمات أخرى مشابهة في الداخل التركي، بحيث لا تكون العملية مجرد رد على الهجوم السابق وإنما تأتي في إطار إحباط هجمات مستقبلية كذلك. ومما يرفع من احتمالات هذه العملية وفق هذا السيناريو أن الأطراف الدولية ستكون أكثر تفهمًا لدوافع أنقرة وأقل رغبة في إعاقة العملية أو منعها، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية.
وأخيرًا، قد يكون أفضل رد تقوم به السلطات التركية هو الحيلولة دون حدوث هجمات أخرى في المستقبل، حيث إن مرور الزمن واقتراب موعد الانتخابات أكثر يزيدان المخاوف المتعلقة بهجمات مستقبلية إذا كان الهدف الرئيس من تفجير إسطنبول هو التأثير على الانتخابات بالأصل.