الاستدارة التركية نحو دمشق.. الرهان والفرص والتحديات
شكلت الاستدارة التركية الأخيرة نحو نظام الأسد صدمة كبيرة لدى كثيرين، فقد ظلت أنقرة على مدار عقد من الزمن في مقدمة الداعمين للمعارضة السورية، حتى إنها اصطدمت عسكريا أكثر من مرة مع قوات الأسد، وكان الرئيس أردوغان من أشد معارضي نظام الأسد، بعد أن رفض الأخير سماع نصائح أنقرة بتحكيم العقل والاستجابة لمطالب شعبه، وعوضا عن ذلك وجه جيشه وأجهزة مخابراته، وسخر جميع إمكاناته لقمع المتظاهرين السلميين، مُشعلا حربا تسببت في مقتل وتشريد الملايين، وتدمير سوريا، وتحويلها إلى ساحة لتصفية الحسابات، ومرتعا للإرهاب العابر للحدود وتجارة المخدرات، ليعيش السوريون مأساة إنسانية قل نظيرها في التاريخ البشري.
دوافع الاستدارة التركية نحو دمشق
في بدايات الانتفاضة السورية عام 2011، حذر الرئيس الأميركي باراك أوباما نظام الأسد من استخدام الأسلحة الكيماوية، واعتبرها خطا أحمر لن يسمح بتجاوزه. لكن نظام الأسد، مدفوعا من الإيرانيين، استخدم الأسلحة الكيماوية ضد المدنييين في الغوطة وخان شيخون، متحديا أوباما وخطوطه الحمر”!.
لكن نظام الأسد، ورغم التغاضي الدولي عن جرائمه، والدعم الإيراني اللامحدود، ظل عاجزا عن الاستمرار في الحكم والتصدي لانتفاضة شعبه، وبدا يومئذ وكأنه آيلٌ للسقوط، فطلبت إدارة أوباما من روسيا التدخل لمنع سقوطه المبكر !..
وشكل وصول جو بايدن، إلى السلطة، عاملا مؤثرا أدى إلى تغييرات جذرية في السياسة الخارجية التركية، خصوصا بعد تعيين بريت ماكغورك، المعروف بمواقفه السلبية تجاه تركيا وعلاقاته الوثيقة مع القوى الانفصالية الكردية، مسؤولا عن منطقة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، إذ زادت مخاوف أنقرة من تنامي الدعم الأميركي للأكراد في شمال شرقي سوريا، وهذا ما حصل بالفعل، حيث لم تنقطع قوافل الأسلحة الأميركية المقدمة لـ”قسد”.
وكانت أنقرة متوجّسة أصلًا من الخطاب الحادّ الذي تبنّاه بايدن خلال حملته الانتخابية تجاه أردوغان، حين دعا إلى دعم المعارضة التركية لإسقاط أردوغان.
ثم جاء التدخل العسكري الروسي، فأدركت أنقرة أن سياسة تغيير النظام في دمشق التي تبنّتها منذ 2011 غير واقعية، كما دفع التحالف الذي أنشأته واشنطن مع “قسد” إلى تغيير أولويات أنقرة في سوريا، فقد سعت إلى دفع التهديدات التي تواجه أمنها القومي عبر ضبط الحدود ومنع نشوء كيان انفصالي كردي على حدودها الجنوبية. وأدى ذلك إلى تمهيد الطريق أمام تفاهمات تركية روسية كان جوهرها تخلي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق مقابل تعاون موسكو في منع قيام كيان كردي في سوريا.
منذ ذلك الوقت، نفَّذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية شمال سورية: عملية “درع الفرات” في آب 2016، وعملية “غصن الزيتون” في شباط 2018، وعملية “نبع السلام” في تشرين الأول 2019، وأدّت هذه العمليات إلى تقطيع أوصال أي كيان كردي محتمل على الشريط الحدودي مع سوريا.
ومن الجدير ذكره في هذا السياق، نجاح المعارضة التركية في تشكيل رأي عام ضاغط، يرى مصالحة نظام الأسد ضرورة لا بد منها، بل يراها مفتاحا لحل جميع مشكلات تركيا!.
الاستدارة التركية نحو نظام دمشق
على هامش مشاركته في قمة شنغهاي، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رغبته بلقاء رئيس النظام بشار الأسد، قائلا:” لا توجد عداوات أبدية في السياسة”.
وذكرت وكالة “رويترز” أن رئيس المخابرات التركية عقد اجتماعات متعددة مع نظيره السوري “علي مملوك” في دمشق في الأسابيع الأخيرة، في مؤشر على جهود تبذلها روسيا للتقريب بين تركيا ونظام الأسد بعد القطيعة بين الطرفين.
وأخبر أردوغان الصحافيين في أثناء عودته من رحلة خارجية: “تحتاج المعارضة والنظام في سورية للتصالح”، وأضاف: “هدف تركيا في سوريا ليس هزيمة الأسد، ولكن التوصل لحل سياسي والدعوة للحوار السياسي” مع النظام في دمشق.
وكان الرئيس التركي قال بعد أسبوع من مصافحته للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الشهر الماضي، إن تركيا يمكن أن “تضع الأمور في مسارها الصحيح مع سوريا”.
وبغض النظر عن طبيعة الاشتراطات والمطالب، فإن حاجة الطرفين إلى إحداث تحول في العلاقة بينهما، والمكاسب التي يتطلعان إليها، هي من يُحدد فرص النجاح.
وترسم أنقرة مسارها الجديد من خلال عدّة مراحل، تبدأ بإنهاء القطيعة السياسية مع دمشق، وإجراء تواصل سياسي على المستوى الرئاسي كحد أقصى أو على مستوى وزراء الخارجية كحد أدنى. ثم اتخاذ بعض الخطوات المهمة التي تُلبي احتياجات الطرفين، من أبرزها توقيع اتفاق أو بروتوكول ثنائي لإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم الأصلية، وضمان عدم تعرّضهم للاضطهاد، وتحديث اتفاقية أضنة، والشروع في تعاون أمني بين أنقرة ودمشق ضد حزب العمال الكردستاني وفروعه السورية، فضلاً عن تقديم تركيا بعض التنازلات الأساسية التي يُريدها النظام، كاستعادة السيطرة على المعابر الحدودية والطرق الدولية التي تسيطر عليها المعارضة، فضلاً عن عودة الأجهزة المدنية للحكومة السورية إلى محافظة إدلب. ثم تليها المرحلة الأصعب، وهي مرحلة التسوية السياسية بغرض التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي الحرب في سوريا.
تحديات التقارب التركي مع النظام السوري
رغم التوجّه التركي نحو الانفتاح على النظام السوري ومصلحة الأخير الواضحة في التفاهم مع تركيا، بهدف تجريد المعارضة السورية من حليفها الرئيس، فإن عقباتٍ عديدة تعترض سبيل هذا التقارب:
أولًا، يحاول النظام السوري استغلال حاجة حزب العدالة والتنمية الانتخابية إلى حل موضوع اللاجئين والأكراد بفرض شروطٍ يصعب على تركيا قبولها، منها مطالبة أنقرة بوضع جدول زمني للانسحاب من الأراضي السورية، والتخلي عن دعم المعارضة، وإعادة إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل مصنفة على قوائم الإرهاب عالميا، واستعادة السيطرة على معبر باب الهوى بين تركيا وإدلب، وهي مطالب أقرب ما تكون إلى شروط تعجيزية. مقابل ذلك تطلب تركيا من النظام الانخراط في مفاوضات جدّية مع المعارضة للوصول إلى تسوية سياسية، وهو شرط لن يقبل به النظام.
ثانيًا، ما زالت الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في مناطق شرق الفرات، وما زالت واشنطن متمسّكة بتحالفها مع “قسد”، وما لم تصبح جزءا من أي تفاهم بشأن سوريا، فالأرجح أن النظام والروس لن يكونوا قادرين على تنفيذ أيّ تعهدات يقطعونها للأتراك بخصوص تحييد “قسد” في مناطق شرق الفرات.
ثالثا، الضغوط الإيرانية على نظام الأسد، إذ تخشى طهران من تأثير التقارب بين أنقرة ودمشق على نفوذها ومكتسباتها في سوريا.
رابعا، استكملت أنقرة جميع التجهيزات للقيام بعملية عسكرية في الشمال السوري، بعد تحميل قسد مسؤولية تفجير إسطنبول، وذكر خبراء عسكريون أن الجيش التركي جاهز للتوغل برا شمالي سوريا، حيث ينفّذ بالفعل قصفا مدفعيا وجويا.
لكن الحكومة قالت أيضا إنها مستعدة لإجراء محادثات مع دمشق إذا ركزت على أمن الحدود، حيث تريد أنقرة إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية السورية عن الحدود ونقل اللاجئين إلى “مناطق آمنة”.
خلاصة، مما لا شك فيه أن الرئيس رجب طيب أردوغان يمتلك مهارات دبلوماسية عالية، مكّنته من تجاوز عقبات كبيرة في علاقات بلاده الخارجية. لكن المناورة التي يقوم بها على الساحة السورية حاليا، تنطوي على مخاطر كبيرة جدا.
صحيح أن الخطوات التي سيتخذها ستكون حاسمة في تقرير مصير الأزمة السورية، لكن فرص نجاحها محاطة بمعطيات سياسية بالغة التعقيد، ليس أولها كون مخاطبه بشار الأسد، لا يملك قراره السياسي بشكل كامل ومستقل، ولن يكون آخرها، فيتو واشنطن التي لا تبدو متحمسة لوضع الأزمة السورية على سكة الحل.
قد تبدو المصالحة مع مصر واردة وممكنة لأنه نظام يسيطر على البلاد بصرف النظر عن شرعيته وأسلوب حكمه، لكن المصالحة مع دمشق أكثر صعوبة وتعقيدا فمن يحكم سوريا فعليا هي موسكو وطهران وواشنطن بالتدخل المباشر أو عبر منظمات إرهابية تدعمها الدول الثلاثة ولأغراض متباينة وليس لدي المجتمع الدولي وخاصة واشنطن أي إرادة سياسية لحل الأزمة السورية عمليا بل بالعكس المزيد من المشاكل ودعم الإرهاب لتأمين الكيان الصهيوني وزعزعة استقرار تركيا ونظامها الذي لا يروق للنخبة الأمريكية الحاكمة والروس لن ينسحبوا من سوريا وقاعدتهم الاستراتيجية هناك في البحر المتوسط.،.
فضلاً عن تعنت نظام الأسد الذي يعمل بعقلية الانتقام والضغينة والتشفي ولكن هناك إنفراجة ملحوظة في الموقف التركي وقد يكون هناك تعاون استخباراتي وأمني في التقدير المنطقي والواقعي وليس مصالحة كاملة