والأمر اللافت في هذه العملية هو أن المجموعة لم تقم بمحاولة انقلاب. بل كانت هناك شبهات تدور حولهم بأنهم ينظمون ويخططون للقيام بالانقلاب. ووفقًا لهذه الشبهة، ألقت السلطات الألمانية القبض عليهم بتهمة الانقلاب. وربما كانوا في مرحلة النية التي تقرؤها المخابرات بخيالها الإبداعي، لتقتادهم من منازلهم ليلاً ومن ثم تعتقلهم.
لم تكن أجهزة المخابرات والأمن الألمانية تعمل من فراغ، ولا بد أنه كان لديها معلومات استخباراتية قوية جعلتها تشعر بالقلق.
من جهة أخرى، ألا يبدو الأمر وكأن ألمانيا لديها حساسية شديدة تجاه ما حصل مقارنة بعدم اكتراثها بمحاولات الانقلاب التي تحدث في دول أخرى كـ”تركيا” وخاصة أن هناك جماعة انقلابية استولت على مراكز البلاد بالطائرات والدبابات والبنادق الحربية، وسيطرت على الثكنات العسكرية للبلاد.
هذا يعني أن هذه الدولة تعتبر الانقلابات في بلدان أخرى مجرد لعبة. وكأن الانقلاب الذي يحدث في دولة ما بمثابة عزف أبواق ودق طبول بالنسبة لدولة أخرى.
بكل تأكيد نحن لا نتجاهل أنه كانت هناك إمكانية حدوث انقلاب في ألمانيا ولا نرى الأمر أنه مجرد لعبة.
حتى لو كان هذا الانقلاب في مرحلة التفكير لقلب نظام الحكم تعبيرًا عن الاستياء من الأوضاع الحالية للبلاد. وحتى لو لم يكن واضحًا إن كان سيتطور إلى انقلاب أم لا، فإننا نننظر إليه بحساسية شديدة.
لم تنظر السلطات الألمانية أبدًا إلى محاولة انقلاب 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول في تركيا على أنها عملية لمخطط انقلاب. حيث ارتأت ألمانيا أن الأنسب هو قراءة ما ذكره الانقلابيون عن الحدث. واختارت ألمانيا أن ترى سيناريو الانقلاب بمثابة حجة دفاعية قدمتها الحكومة ضد تهمة الفساد. لقد أظهرت ألمانيا الموقف نفسه إزاء نضال تركيا ضد تنظيم “بي كي كي” الإرهابي لسنوات.
على الرغم من أن ألمانيا كان يجب عليها الاعتراف ببياناتها الرسمية بأن تنظيم “بي كي كي” الإرهابي كان منخرطًا في نشاط مدمر وانفصالي ضد تركيا، إلا أنها لم تتراجع عن التعاطف والمحسوبية التي أظهرتها تجاه عناصر تنظيم “بي كي كي” الإرهابي خلال التطبيق العملي. واستخدمت ألمانيا العيوب التي تنسبها إلى الديمقراطية في تركيا كذريعة لتصرفها، وظلت تصر على استخدام خطاب التنظيم والأكراد بما يتماشى مع خطاب “تنظيم بي كي كي” الإرهابي.
وأثناء محاولة الانقلاب الفاشلة 15 تموز/يوليو، وقف الشعب التركي بكل مكوناته في وجه الانقلابيين الذين قصفوا البرلمان التركي، وأغلقوا الجسر الذي يربط بين قسمي إسطنبول الآسيوي والأوروبي، وقتلوا 252 شخصًا وأصابوا 2100 آخرين. . حتى في محاولة الانقلاب الفاشلة 15 يوليو/تموز فضلت ألمانيا إظهار التعاطف مع الانقلابيين ضد الحكومة والشعب التركي. كانت ألمانيا تقلل من شأن كفاح تركيا ضد مدبري الانقلاب والإرهابيين. ووجدت حينها أن حساسية تركيا تجاه الانقلاب والإرهاب مبالغ فيها، وأن المزاعم مرادفة للمؤامرة، واعتبرت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية بمثابة ذريعة للاستبداد.
ونجد اليوم أن ألمانيا تصف المجموعة التي اتهمتها بمحاولة الانقلاب بأنها منظمة سياسية تريد تنفيذ انقلاب. ولكن خلال تحدثها عن الانقلابيين في تركيا الذين ثبت إرهابهم وشاهدنا أفعالهم لا يمكن لألمانيا وصفهم بأنهم قاموا بمحاولة انقلابية.
من ناحية أخرى، أفادت ألمانيا أن من بين أعضاء المنظمة الذين تم اعتقالهم، كان هناك ضابط في الجيش وعدد من أفراد الجيش والشرطة السابقين. فهل هؤلاء سيقومون بانقلاب؟ نأمل أن تكون العملية الأمنية الكبيرة التي تفذتها ألمانيا قد أعطتها درسًا تحذيريًا من الانقلاب والتهديدات الإرهابية التي تقع في البلدان الأخرى.
سنذكر العوامل الأخرى التي تكمن وراء حساسية ألمانيا المتناقضة في تصرفها مع هذا الحدث.
هذا الحدث الذي وقع في ألمانيا هو في الواقع نتيجة المشاكل والاستياء المتزايد في المجتمع ضد الحالة التي وصلت إليها ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
جُردت ألمانيا من كل مطالبها الوطنية وعظمتها والكثير من حقوقها. في الواقع لم ينته الاستسلام الذي يلاحق ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من كل أدائها الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي اليوم، إلا أنها لا تزال تدفع تعويضات الحرب لإسرائيل، وكادت أن تصبح السياسة الخارجية الألمانية رهينة للولايات المتحدة وإسرائيل.
لا يوجد مجال في السياسة الخارجية الألمانية للعمل بشكل مستقل عن إسرائيل أو الولايات المتحدة. هناك أيضًا آليات ووصاية تم إنشاؤها داخل ألمانيا لضمان هذه السيطرة. لأن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تشعران بالحاجة إلى القيام بذلك بشكل مباشر.
ينجح المسؤولون الألمان في الحفاظ على انسجام الدولة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من خلال تدخلات القوانين المحلية ومؤسسات الوصاية والدوائر الاقتصادية والمالية. الكل يعرف ويرى هذا الوضع الذي يسبب انزعاجًا كبيرًا بالنسبة للقوميين الألمان.
واليوم هذا الانزعاج يسيطر على جزء كبير من اليمين المتطرف الصاعد. هناك مشاعر شوق لإعادة ألمانيا الإمبراطورية، لكن هذا الشوق لا يملك القدرة على القيام بانقلاب أو الاستيلاء على السلطة في ألمانيا. كما أن مؤسسات الوصاية الألمانية التي تسيطر على البلاد حساسة للغاية تجاه أدنى حركة ولا تتردد في اتخاذ الإجراءات الأكثر صرامة ضدها.
لا يبالون بالثمن الذي ستكلفه هذه الإجراءات بالنسبة لصورة ألمانيا أمام العالم.
عندما يشعرون بوجود تهديد لن يكون لديهم وقت للقلق بشأن التصرف إزاء ما يتفق مع مواقفهم أو يتناقض معها.
غياب الانقلابات في بعض الأماكن لفترة طويلة هو نتيجة لاستمرار السلطة والنظام اللذين تأسسا عن طريق الانقلاب، بأكبر قدر ممكن من الصرامة والشدة.
وفي البلدان التي تشهد انقلابات بشكل متكرر لا تستطيع الانقلابات تأمين السيطرة الكاملة، لذلك تفقد السيطرة على الانقلابات الأخرى في وقت قصير ويتكرر هذا الانقلاب ويُشكل مظهرًا مختلفًا.
بواسطة / ياسين اكتاي