أعلنت السلطات البحرية التركية عن قرار جديد دخل حيز التنفيذ في مطلع كانون الأول الحالي، يشترط تقديم إثباتات خطية حول وجود تغطية التأمين الكامل على حمولات السفن التي ستعبر مضائقها بضمانات مالية كافية لتعويض الأضرار التي قد تتسبب بها أو الحوادث التي قد تتعرض لها خلال تنقلها في المياه التركية.
عشرات السفن تنتظر ومنذ أيام، على مداخل أهم خطوط الربط المائي بين البحار والقارات في العالم. والسلطات التركية لم تبدل الضوء الأحمر إلى الأخضر إلا للملتزمين بالقرار. عند كتابة هذه السطور لم تكن المسألة قد سويت بعد، رغم الضغوطات السياسية والحرب الإعلامية والنفسية التي تقودها بعض العواصم ومراكز القرار ومؤسسات إعلامية وتجارية غربية تتواصل على تركيا، في محاولة لدفعها إلى التراجع عن هذا التدبير وتمكين سفن نقل النفط الروسي الخام من المرور عبر مضائقها البحرية.
لا يمكن الفصل طبعا بين تزامن حالات التكدس في السفن أمام المضائق التركية وبين قرار الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، منع شركات التأمين من تسهيل تصدير النفط الروسي المنقول بحرا بأكثر من 60 دولارا للبرميل وفقا لسقف الأسعار المعلن، في محاولة للحد من إيرادات موسكو التي تستخدم في جزء منها لتمويل الحرب في أوكرانيا.
ولا يمكن الفصل أيضا بين توقيت إعلان شرط التأمين الإلزامي التركي الذي دخل حيز التنفيذ قبل 10 أيام وبين قرارات العقوبات الغربية التي دخلت حيز التنفيذ في الخامس من الشهر، بحيث يمنع على دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا تقديم أي خدمة لناقلات النفط المحملة بالخام الروسي، ويشمل ذلك تأمينها إذا ما خرجت عن هذا القرار.
تقول شركات التأمين العالمية المتمركز معظمها في لندن البريطانية، إن القرار التركي يتسبب في تأخير التزامات الشحن والتسليم، ويحمل السفن التي تنتظر أمام المضائق أعباء مالية إضافية تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار يوميا للسفينة الواحدة. لكن هيئة الملاحة البحرية التركية تقول إنها ستتمسك بقرارها هذا لأنه إجراء اعتيادي معمول به منذ العام 2002 في التعامل مع السفن التجارية التي تريد عبور الخط المائي الذي يجمع البحر الأسود ومضيق البوسفور للوصول إلى بحر مرمرة ثم مواصلة سيرها باتجاه مضيق الدردنيل لعبوره نحو بحر إيجه. أنقرة لم تكن متشددة في تدابيرها لكن قرار شركات التأمين العالمية تجميد عقودها وضماناتها للسفن هو الذي دفعها نحو التشدد أكثر فأكثر.
تطالب تركيا الالتزام بقرار غربي ليست طرفا فيه أولا. وأن تسهل لشركات التأمين والنقل الخروج عن القرار الغربي عبر السماح بعبورها لمضائقها دون ضمانات حماية مياهها وشواطئها ومواطنيها ثانيا. وأن تخرق هي القرارات التي اتخذتها منذ سنوات حيال الراغبين بالاستفادة من مضائقها تجاريا إرضاء لبعض المستثمرين والتجار وأصحاب النفوذ السياسي والإعلامي في الغرب.
تحاول العواصم الغربية نفي مسؤوليتها عن تكدس الناقلات المنتظرة في البحر الأسود لعبور مضيق البوسفور. ويرى البعض في الغرب أن القرار التركي قد يؤثر على تدفق ملايين براميل النفط المصدرة من روسيا إلى العالم. لكن المسؤول عن ذلك هو من يريد أن يفرض على أنقرة قراره هو رغما عنها. بقدر ما يحاول الغرب أن يحمي مصالحه ونفوذه في المواجهة مع روسيا، بقدر ما هو من حق تركيا أيضا أن تحمي معابرها المائية من مخاطر تلوث البيئة وتلوث النفط وحوادث التصادم.
أبلغت السلطات التركية شركات التأمين والنقل العالمي بقرارها الجديد قبل أكثر من شهر. أنقرة كانت تستعد لقرار الخامس من الشهر الحالي الصادر عن العواصم الغربية الذي يحظر على شركات التأمين الغربية تقديم خدمات النقل والتأمين والخدمات إذا كان سعر النفط الروسي المباع أعلى من سقف 60 دولارا للبرميل. لكن الحقيقة أيضا هي أن مجموعة السبع وعلى رأسها بريطانيا تحظى بحصة تسعين في المئة من بوالص التأمين للشحنات العالمية، وأن العديد من هذه الشركات ألغت عقود الكثير من الناقلات بسبب العقوبات المفروضة على روسيا والأعباء المالية التي ستتحملها بعد قرار تحديد السقف النهائي لسعر شراء برميل النفط الروسي. وأن الهدف هو محاولة رمي الكرة في ساحة أنقرة ومطالبتها هي أن تتحمل الأعباء وارتدادات هذه القرارات الغربية.
تسعى كبار شركات التأمين الغربية لمحاصرة القرار التركي وتحويله إلى قرار ببعد سياسي يعكس حجم التقارب التركي الروسي الثنائي والإقليمي، لكن الرد التركي لم يتأخر. تركيا تسهل نقل مخزون الحبوب الأوكراني إلى العالم، فلماذا تعرقل صادرات النفط الروسي إلى أوروبا؟ هناك تدابير حماية ووقاية تركية لحركة العبور في المضائق منذ عقود وبعد الكثير من الحوادث في تقاطع مياه البحر الأسود ومرمرة وإيجه، وأنقرة لن تتراجع عن قراراتها هذه. الغرب يريد أن ينقل النفط الروسي إلى دول أخرى باستخدام ناقلات نفط غربية، والمطلوب من أنقرة أن تغض النظر عن ذلك، وهو ما أعلنت أنقرة عن رفضه.
الجانب الروسي لم يتريث هنا وهو سيتحرك حتما لاستغلال الفرصة. فبعد قرار هيئة الملاحة البحرية، بدأت السلطات التركية التفاوض مع موسكو التي تقول إنها جاهزة لإحباط لعبة الغرب المزدوجة: إلزام تركيا بفتح مضائقها أمام السفن من دون تأمين. وتبني قرار العقوبات ضدها رغم أن تركيا ليست طرفا فيه. العرض الروسي هو أن تتحمل شركات التأمين الروسية التعهدات التي تريدها أنقرة من السفن الروسية. تركيا ستنسق مع موسكو أكثر هنا وتسهل لها عبور نفطها إلى الخارج من خلال تفاهمات ثنائية جديدة. شركات التأمين الغربية ترفض المقترح الروسي لأنه سيتحول إلى فرصة منافسة تجارية دولية لها في هذا الحقل. لكن المشكلة الأهم هي أن خطوة تركية بهذا الاتجاه ستزيد من الشرخ القائم بين أنقرة والغرب في ملف أوكرانيا ورفض تركيا الالتحاق بقرارات التصعيد ضد موسكو، وهو ما يريده الكرملين منذ بداية الحرب في القرم. فهل تعطيه تركيا ما يريد؟