بدا تصريح الرئيس التركي بخصوص إمكانية لقائه مع رأس النظام السوري صادماً ومفاجئاً للكثيرين. فإجابةً على سؤال من أحد الصحافيين بخصوص مصافحة السيسي وإمكانية تكرار ذلك مع الأسد، قال أردوغان إنه يمكن أن يلتقي الأسد إذ “لا قطيعة ولا ضغينة في السياسة”، وإن تركيا ستتخذ “الخطوات اللازمة حين تنضج الظروف”.
منبع المفاجأة أن المسؤولين الأتراك كانوا عبّروا غير مرة عن رفضهم نقل العلاقة مع النظام السوري من حصرية القناة الاستخباراتية إلى مستوى سياسي من أي نوع. لكن ذلك تغير بشكل ملحوظ بعد عودة الرئيس التركي من قمة سوتشي مع نظيره الروسي في آب/ أغسطس الماضي، حيث تحدث المسؤولون الأتراك لأول مرة عن “إمكانية” فتح علاقة سياسية مع النظام في دمشق.
التمنع المتبادل تبدل بعد تلويح أنقرة مؤخراً بعملية برية في سوريا ضد وحدات الحماية إثر هجوم إسطنبول وما تلاه من قصف للمدن الحدودية التركية سقط إثره ضحايا، بل إن الحديث التركي هذه المرة تضمن إشارة لإمكانية اللقاء مع الأسد وليس فقط نسج علاقة سياسية مع النظام
في ذلك الحين، صدرت تصريحات عن شخصيات مقربة من النظام السوري تحدثت عن شروط لقبول علاقة سياسية مع تركيا، من ضمنها الانسحاب من الأراضي السورية. وبناء على ذلك بدا ما يشبه التراجع عن التصريحات السابقة من أنقرة، على لسان الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين الذي قال إن رفع مستوى العلاقة مع النظام “ليس على الأجندة حالياً”.
بيد أن هذا التمنع المتبادل تبدل بعد تلويح أنقرة مؤخراً بعملية برية في سوريا ضد وحدات الحماية إثر هجوم إسطنبول وما تلاه من قصف للمدن الحدودية التركية سقط إثره ضحايا، بل إن الحديث التركي هذه المرة تضمن إشارة لإمكانية اللقاء مع الأسد وليس فقط نسج علاقة سياسية مع النظام، كما تلته تصريحات روسية عن استعداد لوساطة بين الجانبين لتهيئة الظروف للقاء بينهما.
فهل يمكن أن يلتقي أردوغان مع الأسد فعلاً على غرار لقائه مع السيسي؟
يمكن نقاش الأمر من عدة زوايا، السياق والدوافع والشروط واحتمالات المستقبل.
في الإطار العام، يُنظر لمسار تركيا التصالحي مع عدد من الدول العربية التي ناصبتها الخصام طوال العقد الفائت، والذي من ضمن أسبابه طي صفحة الثورات العربية والتفاعل مع الإدارة الأمريكية الجديدة وغير ذلك. لكن النظام السوري كانت له خصوصية واضحة في نظر أنقرة التي بقيت ترفض اللقاء والالتقاء معه رغم حديث المعارضة التركية عن ذلك لسنوات. ومن أهم ملامح هذه الخصوصية إدراك تركيا أن الاعتراف بشرعية النظام والتعاون معه سيعزز مطالباته لها بالانسحاب من الأراضي السورية، رغم أن ذلك لا يعني الحتمية ولا القرب الزمني حتى لذلك.
لكن السنوات القليلة الماضية حملت تحولاً داخل تركيا، إذ انتقل الحديث عن المصالح المشتركة مع النظام من دوائر المعارضة لبعض الأطر المحسوبة على الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وفي مقدمة هذه المصالح مكافحة المنظمات الإرهابية والانفصالية (وحدات الحماية)، وتأسيس منطقة آمنة لعودة السوريين من تركيا.
في المقابل، رغم تمنع النظام أو تظاهره بالتمنع إلا أن أي علاقة سياسية مع تركيا هي مكسب كبير له، إذ ستعني اعترافاً ضمنياً من تركيا به، وهي الداعم الأخير للمعارضة الرافض للاعتراف بشرعيته، وكذلك انتقال العلاقات معها لمرحلة جديدة لها ظروفها المختلفة عن السابق.
بالنظر لما حصل مع كل من مصر و”إسرائيل” يمكن ملاحظة أن التقارب حصل دون تحقق الشروط المرفوعة مسبقاً من مختلف الأطراف، وهو ما يعني أن الشروط المعلنة هي بمثابة أوراق تفاوضية أكثر منها شروطا حقيقية، وأنه قد تكون هناك شروط ضمنية غير معلنة أهم منها
في المقام الثاني، هناك الشروط التي وضعها كل طرف على الآخر حسب بعض التقارير والأخبار، مثل الانسحاب من سوريا ووقف دعم المعارضة بالنسبة لتركيا، والتصرف بعقلانية وتسريع المسار السياسي وحماية الشعب السوري بالنسبة للنظام، وهي شروط لا تبدو قابلة للتحقق قريباً.
لكن بالنظر لما حصل مع كل من مصر و”إسرائيل” يمكن ملاحظة أن التقارب حصل دون تحقق الشروط المرفوعة مسبقاً من مختلف الأطراف، وهو ما يعني أن الشروط المعلنة هي بمثابة أوراق تفاوضية أكثر منها شروطا حقيقية، وأنه قد تكون هناك شروط ضمنية غير معلنة أهم منها، مثل الاعتراف بنظام السيسي علناً وبشكل رسمي كما في حالة مصر ومصافحة أردوغان- السيسي.
بالنظر لكل ما سبق، يمكن القول إنه ثمة تقييم لدى كلا الطرفين بوجود دوافع ومصالح لتأسيس قناة تواصل سياسية وعدم الاكتفاء بالاستخباراتية، وإن الأمر بات يتعلق بالتوقيت والإخراج والمستوى. وعند الحديث عن التوقيت فيبدو أن النظام يرى أن انتظاره لما بعد الانتخابات التركية سيكون أفضل له، إلا أن ذلك ليس أمراً ثابتاً بل قد يتغير في ظل الإصرار الروسي وتغير توقعات الانتخابات التركية من وقت لآخر.
من المستبعد أن يحصل لقاء بين أردوغان والأسد في المدى المنظور، لكن الانتقال للعلاقات السياسية بات مرجحاً جداً، على مستوى وزارتي الخارجية وربما كلقاء بين الوزيرين بشكل شخصي. ومن المتوقع أن يكون الأمر في بداياته اختباراً لنوايا الطرفين وإرادتهما وإمكاناتهما، بالتركيز على ملفات بعينها
وأما على صعيد المستوى، فمن المستبعد أن يحصل لقاء بين أردوغان والأسد في المدى المنظور، لكن الانتقال للعلاقات السياسية بات مرجحاً جداً، على مستوى وزارتي الخارجية وربما كلقاء بين الوزيرين بشكل شخصي. ومن المتوقع أن يكون الأمر في بداياته اختباراً لنوايا الطرفين وإرادتهما وإمكاناتهما، بالتركيز على ملفات بعينها وفي مقدمتها مكافحة المشروع الانفصالي في الشمال وعودة/ إعادة السوريين المقيمين في تركيا.
أما المسار المستقبلي فهو محكوم بتقييم الطرفين، ومعهما أطراف أخرى في مقدمتها روسيا، للفترة الاختبارية الأولى ويعتمد على عدة عوامل من بينها نتائج الانتخابات التركية والأوضاع الميدانية والسياسية والاقتصادية في سوريا ومآلات الحرب الروسية- الأوكرانية.. الخ.
لكن الثابت أن العلاقات السياسية بين أنقرة والنظام السوري قد انتقلت من الرفض المطلق إلى القبول المبدئي وانتظار -أو تهيئة- الظروف المناسبة والتوقيت الملائم، وهذا تغير غير بسيط بالنظر للدور التركي في القضية السورية.