لم يكن من السهل على الفكر والحياة الثقافية التركية أن تتحرر من التأثير الأوروبي. فقد كان التجديد العثماني والتركي المبكر يتمحور حول أوروبا إلى حد كبير.
وعلى وجه الخصوص، كانت الحياة الثقافية تتطلع إلى النموذج الفرنسي والألماني، حيث نشأت على أساس الدعاية القوية والدولة. وبطريقة ما، كان التجديد هو مفتاح الخلاص بالنسبة للنخبة العثمانية التي تهتم بتقاليد الدولة القديمة ومسألة البقاء والأبدية. كانت كل من الدولة القديمة والحديثة في نهاية المطاف عبارة عن نظام أبوي لدى هذه النخبة.
كانت العضوية هي القاسم المشترك للهياكل والتيارات شبه الأيديولوجية، التي ظهرت بعد الحقبة الدستورية الثانية للدولة العثمانية. في حين كانت بريطانية وأمريكا البعيدة، أشبه بحكاية خيالية حدثت وراء جبل “قاف” الأسطوري.
وكانت هناك دائرة ضيقة من الأتراك الشباب مثل السيد صباح الدين تعمل على تقديم تحليلات صادمة عن الدول الجزرية في الشمال الأوروبي. لكن القاضي العادي لا يمكن أن يكون مؤثرا أمام القاضي المهيمن.
تأسست الجمهورية على أساس النموذج الفرنسي. أولئك الذين ينتقدون العقيدة الرسمية بطريقة أو بأخرى لم يكونوا في الواقع بعيدين عن الثقافة التي أحاطت بالحكومة المتأسسة على أساس العضوية. فكانت “الأفكار العميقة” توجه كل واحد منهم.
وكانت حياتنا الفكرية والثقافية تخيم عليها ضبابية “التفكير الأيديولوجي” كما وصفتها الكاتبة التركية أليف آلاتلي. في هذه الضبابية، كان المفكرون الأيديولوجيون ضائعين وبعيدين عن الواقع.
بدأ كل شيء يتغير بعد الحرب العالمية الثانية. بدأت ثقافتنا السياسية والاجتماعية تظهر بشكل مرن بعد الانضمام إلى حلف الناتو وظهور حكومات يُفترض أنها أكثر ليبرالية وديمقراطية، وأنها خففت من سيطرة المبادئ التأسيسية.
على عكس الأوروبيين السيئين الذين يتعبوننا، بدأنا في الاتفاق والانسجام مع الأمريكيين “الودودين” و”الصريحين” و”البارعين” والذين يفكرون ويتصرفون بشكل عملي”، بحيث فتنَّا بمعايير استهلاكهم. بالطبع، لم يكن هذا التحول مفاجئا وسهلا. في الفترة الممتدة ما بين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي، فقد بقيت الهياكل السياسية والأيديولوجية العضوية في أمريكا تحافظ على متانتها، لا سيما تحت تأثير الحرب الباردة.
في حين أن التيار اليميني والمعتدل والمتشدد في تركيا لا يتبع النمط الأمريكي على المستوى الثقافي، ولكنه في نفس الوقت لا يرى أنه يشكل تهديدًا. بل على العكس من ذلك، شعروا بأنهم في وضع يسمح لهم بالتوافق مع الولايات المتحدة وحلف الناتو لأنهم منعوا الأتراك المسلمين من الوقوع ضحية لفظائع موسكو.
كما كان التيار اليساري يعارض بشدة التوافق مع الولايات المتحدة وحلف الناتو. ولم تكن الولايات المتحدة منزعجة من هذا الوضع. لقد كانت واشنطن تنتج بالفعل الاتجاهات المعادية للشيوعية وتسكبها في الوعاء الذي تريده. لم يكن الأمر مختلفا بالنسبة لليسار.
الشباب اليساريون المعادون للإمبريالية الأمريكية كانوا يدرسون في مختلف المدارس والجامعات، كانت واشنطن تقسمهم إلى مجموعات روسية وصينية وتقلبهم ضد بعضهم البعض.
الحكومات اليمينية التركية (من مندريس إلى ديميريل) التي هيمنت بعد الفترة الممتدة بين 1950و 1980 أدركت بدعم من الناتو الوجه الحقيقي للولايات المتحدة من خلال الممارسة العملية. أعتقد أنه سيكون من المناسب تماما اعتبار هذه الفترات على أنها صراعات بين الموالين لأمريكا والمعادين لها. وعندما ننظر بشكل أكثر واقعية، نفهم أن الصراع هو بين الولايات المتحدة والقوى اليمينية التي رعتها وأوصلتها إلى السلطة، والتي تبدو أمريكية على الورق، ولكنها بعد مرحلة ترى وجه أمريكا الحقيقي وتتشوش.
بدأ الانقسام بعد عام 1980. قام اليمينيون واليساريون، الذين عانوا من اضطهاد الانقلاب العسكري، بإعادة تأهيلهم السياسي من خلال التحرير.
في الواقع، هذه الاستراتيجية أنشأتها الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة للحفاظ على هيمنتها وانتشارها عالميا. ويعد تورغوت أوزال ، الذي وصل إلى السلطة عام 1983 وأصبح زعيم اليمين الجديد، الممثل الحقيقي للأمركة في تركيا.
وقدم اليسار الجديد الدعم له بطرق مختلفة. لم يعد هناك أي إمبريالية أمريكية. وشعر الجميع بالارتياح. هذا المفهوم السحري للعولمة، الذي تطور على أساس الاقتصاد الليبرالي والسياسة الليبرالية، كان يخفي أمركة العالم، وأمركة تركيا. ومن خلال شبكات الاستهلاك، أصبح الجميع من اليسار إلى اليمين أمريكيين بعض الشيء.
أولئك الذين انتقدوها اتهموا بأنهم ديناصورات (يحملون عقلية قديمة). كان اليمين واليسار الجديدين يسخران من ديناصوراتهم ويضربونها. ولم يكونوا مخطئين في بعض المواقف. لأن أولئك الذين احتفظوا بمشاعرهم المعادية للإمبريالية لم يتمكنوا من تجديد أنفسهم، وقد أظهروا مشهدًا طبيعيًا لأنهم كرروا حفظ حقبة الحرب الباردة.
هذه الموجة الليبرالية جلبت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. ولكن بدءا من مذكرة 1 مارس/آذار، سارت الأمور بشكل خاطئ. وتخبرنا مؤامرة غيزي بارك ومحاولة الانقلاب الفاشلة 15 يوليو/تموز عن الانقطاعات الكبيرة في هذا المسار.
لقد تركت الموجة الليبرالية حكم حزب العدالة والتنمية. لا أرى أن هذا استياء سياسي بسيط. فذلك يتماشى تماما مع تجاهل الولايات المتحدة لتركيا.
والأمر المهم حقا هو أن انتخابات 2023 والذكرى المئوية للجمهورية، تتطلب مواجهة عميقة. ستقوم تركيا بتقييم شامل للتطورات العالمية وتغير ميزان القوى وتختار مسارا جديدا لنفسها.
ومن هذه المسارات المحتملة أن تركيا ستتقلص وتنكمش مرة أخرى بالشكل الذي تريده الولايات المتحدة. وثمة مسار آخر محتمل، وهو أن تركيا سوف تتمكن من إحياء نفسها عبر عقيدة ثابتة ومفصلة، بحيث تزيد من نهوضها. ولكن المسار الثاني أكثر صعوبة لأنه يتطلب تصفية حسابات مع الولايات المتحدة في الخارج – والأهم من ذلك- مع الولايات المتحدة في الداخل.
بواسطة / سليمان سيفي أوغون