تخوض تركيا هذا العام انتخابات رئاسية وبرلمانية هامة ومفصلية ، على كل الأصعدة الداخلية والخارجية والاقليمية.
الحزب الحاكم بقيادة أدروغان خاض خمسة عشر انتخاباً خلال العقدين الماضيين وفاز بها كلها بشكل متتالي رغم كل ماتعرض له من عقبات ومعيقات في كل مرة قبلها.
هذه الفترة الطويلة من الحكم بتركيا وهذا الفوز لم يستطع تحقيقة سوى الرئيس أردوغان الذي يعتبر داهي قيادة الانتخابات ، وتحويل السلبيات لإيجابيات وكسب تأييد المواطن مهما كانت الظروف.وهو يدرك أن هذه الانتخابات ستكون هي الأهم بحياته ومسيرة العدالة والتنمية وتاريخ تركيا كلها.
النظام الرئاسي هو الأخر جعل الاصطفاف حاداً ، وقسم تركيا لقسمين وطرفين ، كما يحدث تقريبا بالولايات المتحدة الامريكية، ربما هذا ما كان يهدفه الرئيس أروعان من النظام الجديد بالبداية، وربما كان البعض من العدالة والتنمية قبل عام من الآن يفكرون بأنهم أوقعوا انفسهم بالفخ وقد يفقدون الرئاسة والبرلمان هذه المرة بسبب هذا النظام الجديد، بينما كان النظام البرلماني السابق يضمن لهم رئاسة الحكومة مهما كانت اصوات العدالة متراجعة طالما كان هو الحزب الأول .
هذا النظام الرئاسي دفع الاحزاب المعارضة ايضاً أن تلتقي على طاولة واحدة وهي التي تختلف بكل شيئ فيما بينها ولا يجمعها سوى معاداتها لأردوغان وكونها بخانة المعارضة.
تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن قبل أن يصبح رئيساً وقوله وتعهده بدعم المعارضة التركية للإطاحة بأردوغان الذي يجب أن يدفع الثمن هذه المرة، شجعت هذه التصريحا ت أحزاب المعارضة وفتحت شهوتها وجعلتها تحلم بالفوز هذه المرة وخاصة بعد فوز بايدن بالرئاسة.
العامل الاقتصادي والانجازات الخدمية كانت في كل الانتخابات السابقة تخدم العدالة والتنمية وتسهل مهمته،لكنها هذه المرة -ورغم كل الاصلاحات الاسعافية -لأول مرة تمر تركية بأزمة ارتفاع اسعار البيوت والآجارات والسيارات والمواد الاساسية بشكل غير مسبوق ابداً ، جعلت المواطن العادي والموظفين وأصحاب الدخل المحدود يفقدون حلم شراء البيت واقتناء السيارة لسنيين قادمة ، وهذا مافتح شهية احزاب والمعارضة وبدأوا بالنسج عليها شعارتهم وأنها ستكون الضربة القاضية للعدالة والتنمية هذه المرة.
خلافات تركيا مع الدول الاقليمة من مصر للامارات لسوريا والسعودية ودول أوربية مثل فرنسا واليونان هي الاخرى جعلت عصب المعارضة يقوى ويشتد وبدأت تنادي بأنها هي التي ستنقذ تركيا من عزلتها التي تسببت بها السياسة الاردوغانية.
التجييش العرقي تجاه اللاجئيين السوريين من قبل بعض احزاب المعارضة وخاصة من قبل حزب الظفر(النصر) وارتفاع وتيرة الكراهية والتذمر الشعبي والتململ من التواجد السوري كان مشجعا لأحزاب المعارضة التي بدأت تنادي بأنها تمتلك العصى السحرية لحل هذه المشكل وذلك بالجلوس مع الاسد وتأمين العودة الآمنة للاجئين السوريين.
خسارة العادلة والتنمية لبلديات أهم مدن تركيا وعلى رأسها اسطنبول وأنقرة لأول مرة بعد فوز أردوغان ببلدية اسطنبول بالعام 1994 جعل الكفة والرياح تميل لصالح المعارضة وتجعل العدالة والتنمية يشعر بفادحة الخسارة وجرحها العميق.
قبل عام من اليوم كانت كل استطلاعات الرأي تشير لتراجع اصوات العادلة والتنمية وتصل لأول مرة من هذا الانخفاض والتراجع ، وبدأ المقص يضيق بينها وبين المعارضة وبدأت أصوات الائتلاف الجمهوري (العدالة والتنمية مع الحركة القومية وحزب الوحدة الكبير) تتراجع عن التجمع المعارض المتشكل من ستة احزاب معارضة كبيرها وصغيرها. مما جعل قادة ومتحدثي أحزاب المعارضة يطلقون – بكل ثقة وغرور – شعارت لقد اقترب رحيل أردوغان ولم يبق سوى القليل وهويعيش ايامه القصيرة .
رغم كل هذه الأرضية الخصبة والساحات المناسبة للمعارضة لأول مرة ، ورغم هذه الثقة بالنفس لا تزال غالبية استطلاعات الرأي لا تشير الى ارتفاع وتصاعد أصوات الاحزاب المعارضة ، حتى استطلاعات الرأي التي تشير لتراجع أصوات العدالة والتنمية فزيادة اصوات المعارضة شيئ طفيف ولايذكر ،والفرق هو ارتفاع أصوات المترددين فقط ، وليست لصالح المعارضة ، وهذا مؤشر يجب التوقف عنده.لأن احزاب المعارضة عندما لا ترتفع في أحلك أيام الحزب الحاكم وتراجعه، فكيف ستكون بعد أن بدأ العدالة والتمنية بسحب أوراق المعارضة منها رويدا رويدا كما ذكرتها بمقالي السابق “هل حسم أردوغان الانتخابات قبل أن تبدأ؟”
لماذا اذا لم تستطع كل هذه الاحزاب المعارضة كسب الكفة لصالحها رغم كل هذه الايجابيات التي بخدمتها..!؟
اسباب كثيرة وعديدة ويطول شرحها لكن من أهمها:
أولا: التخبط بالرؤية تجاه النظام الرئاسي التي تعارضه المعارضة وبنت سياستها على نقضه،واعادة تركيا للنظام البرلماني، فتارة يقولون ان هناك مرحلة انتقالية ربما تطول وتستمر لدورة كاملة ، وربما تقصر، وتارة يقولون انهم سيقودون البلاد لانتخابات مبكرة للاستفتاء على عودة تركيا للنظام البرلماني ، وكل هذا مرتبط بالاصوات التي سيحصلون عليها التي قد لا تؤهلهم لاتخاذ كل هذه الوعود أصلاً، علماً أن كل الاحصائيات تشير بأن العدالة والتنمية هو الحزب الاول بحال العودة للنظام البرلماني وهو المخول بتشيكل الحكومة من جديد.
ثانيا: عدم قدرة الاحزاب المعارضة حتى الآن ليس على تسمية مرشحهم للرئاسةفقط ، بل لم يتوصلوا حتى الآن -رغم الاجتماعات المراتونية بينهم- على مجرد صفات وصلاحيات ومسؤوليات الرئيس القادم…
البعض يريده رئيساً شكلياً رمزياً خالي من الصلاحيات رغم أنه سيحصد أكثر من نصف اصوات الشعب التركي ثم يكون مسلوب الأرادة والصلاحية!!؟؟
كلام داوود اغلو الأخير وربط قرارات الرئيس بموافقة رؤساء المعارضة الستة، وكأن أمين سر الطاولة السداسية ، والمدير التنفيذي لها ، وفي حال مخالفته لهم واتخاذ القرار المناسب الذي يراه بدون العودة لهم ، سيتم عزله وحصول أزمة انتخابية، اثارت هذه التصريحات ضجة كبيرة ولم يعد يعرف لفلفتها رغم محاولاته ، اعترض عليها حتى رفاق الطاولة معه، مما اثار تخوف وقلق وحيرة بين الناخب التركي الذي تزداد عدم ثقته بهذه المعارضة.وكانت هذه التصريحات معبرة عن حجم الاختلاف حتى بأهم الأولويات.
ثالثاً: الخلاف المستمر المتماهي بين أكبر احزاب المعارضة كليجدار أغلو وأكشنار ،
كليجدار أوغلو الذي لم يمل من الاشارة للصفات الملطوب توفرها بمرشح المعارضة وكأنه يصف نفسه فقط، لا تتوقف اكشنار من ترديد قول أنها تريد “مرشح يحقق الفوز” وكأنها ترد عليه بأن المرشح المطلوب لست أنت، ولم تتواني بدفع احد نوابها للاشارة لمذهب كليجدارأوغلو العلوي ، بأنه سيكون عائقا امام نجاحه -حتى أردوغان اعترض على هذا الأمر ورفضه- وتدفع بترشيح امام اوغلو رئيس بلدية اسطنبول ، وماحدث من لقاءها معه تأيدا له ضد قرار المحكمة المبدئي بحقه، بدون أن ينتظرا عودة رئيس الحزب كليجدار اوغلو الذي اضطر لقطع زيارته لألمانية والعودة مسرعا لوأد هذه المحاولة ضده.وما تبعها من ملاسانات ومطالبات لها بعدم التدخل بشؤون حزبه، وتأكيده على اهيمة البقاء برئاسة بلدية اسطنبول وعدم اعادة تسليمها للعدالة والتنمية بهدف الاستقالة للترشح لرئاسة الجمهورية.وماذا لو لم ينجح بها ..فهو سيخرج من المولد بدون حُمًص.
رابعا: كليجدار اوغلو مضطر هذه المرة للترشح ولن يعيد تجربة ترشيح محرم انيجه السابقة،وعدم فوزه سيعني خسارة رئاسة الحزب التي لايريد التخلي عنها ، وهو مضطر للاستقالة من رئاسة الحزب بعد الترشح بناء على تعهداته وانتقاداته لأردوغان طيلة الفترة الماضية وهذا سيجعله ان يختار بين أمرين أحلاهما مر..حتى بهذه النقضة يعيش تناقضا وتذبذباً يتضح ذلك من خلال تصريحات نوابه ومؤيده..
سادساً: عبدالله جول الذي يتربص بالخلف ينتظر انسداد الافق بالطاولة السادسية ليكون هو المرشح المنقذ باتفاق الجميع هذه المرة، وهو الذي دفع بعلي باباجان لتشكيل حزبه ليكون هو العقل المدبر ،لكن الاخبار والتسريبات تقول ان جفاءً قد دب بينهما بالآونة الأخيرة ،وبدأ علي باباجان يصرح بأنه المرشح الذي يمكنه أن يفوز على أردوعان في حال دعمته الطاولة السداسية،وهذا مؤشر على المنافسة القوية بين كل المتواجدين عليها.
سابعاً: اكشنار ربطت نفسها بمقولة”انها تريد ان تكون رئيسة الوزراء القادمة” وهذا يعني ضرورة كسب الانتخابات بفارق يسمح بتغيير الدستور والعودة للنظام البرلماني ، ومن ثم خوض الانتخابات وفوزها بالحزب الاول بها..وهذا مشوار طويل يزعج الناخب الذي لا يحب الغموض وعدم الاستقرار. بينما تقول التسريبات الجديدة انها ربما قبلت بترشح كليجداراوعلو بشرط ان تكون النائب الوحيد لرئيس الجهورية بكامل الصلاحيات بمثابة رئيس الوزراء، بينما كل من رؤساء الاحزاب البقية ايضاً يطمحون بأن يكونوا هم ايضاً نواباً للرئيس.
ثامناً: حزب الشعوب الديمقراطية “الحاضر الغائب”الذي ساهم بنجاح البلديات بدعمه المباشر من خلال عدم ترشيحه احد من حزبه ويطالب بالاعتراف بدوره هذا وعدم نسيانه ولذلك هناك يعده الحاضر الغائب على الطاولة السباعية وليست السداسية.
علاقة الأخير بحزب العمال الكردستاني والدعوة باغلاقه التي تنتظر البت بها بالمحكمة الدستورية ،تجعل كل أحزاب المعارضة المجتمعة تسعى لكسب تأيده لها لكنها تخشى العلاقة العلنية معه خشية غضب الناخبين القوميين والمحافظين منها، قرب كليجدار أوغلو من الأخير ورقة قوية بيده ضد اكشنار ورئيس بلدية انقرة البديل الثاني لها، لذلك تدفع بأمام اوغلو لكسر هذا الحاجز، هذا التضارب ايضا من سلبيات الطاولة السداسية-السباعية حيث صرحت اكشنار انها ستغادر الطاولة في حالة انضمام حزب الشعوب الديمقراطية لها.بينما تسعى لكسب اصوات الأخير.
كل هذا التناقضات والمبهمات والتنافس بين زعماء المعارضة جعلتهم ينشغلون طيلة هذه الاشهر الماضية بالحديث عن هذه المواضيع مبتعدين عن الامور الحساسة التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر وهمومه الومية لتزيد من عدم ثقة الناخب وتوجسه وتخوفه من هذه الطاولة المتاقضة بكل شيء.
لكن كل التطورات والمباحثات الأخيرة تشير أن كليجدارأوغلو بات قاب قوسين أو أدنى من نزع تأييد الطاولة السداسية له حيث كانت العقبة الوحيدة المتبقية هي أكشنار وتشير التسريبات انها ربما اعطته الكرت الاخضر هذه المرة.
بعد ترشح كليجدار أوغلو سيحدد المعادلة القادمة عدة نقاط ومواقف منها موقف القوميين بحزب أكشنار والاحزاب اليمينية والمحافظة وخاصة حزب السعادة وحزب الرفاه الجديد وغيرهم.
الثقل الثاني سيكون للمترددين المنتظرين حتى اليوم الى أي كفة سيملون ، الاستطلاعات الاخيرة تشير لصالح الرئيس أردوغان والعدالة والتنمية الذي استطاع اذابة الجليد واستعادة المبتعدين عنه .
الثقل الثالث والأهم الذي تعول عليه طاولة المعارضة هو تأييد الشعوب الديمقراطية وكسب اصواته في حال تم اغلاقه قبل الانتخابات القادمة..
يبدو أن الانتخابات القادمة ستكون حامية الوطيس وستكون الاتهامات والمناوشات من الصرة واسفل، والاتهامات والتخوينات وفتح الدفاتر القديمة على اشده. ومن هنا يجب على اللاجئين الابتعاد وعدم التدخل بها لا من قريب ولا من بعيد.
فالايام القادمة حبلى بكل شيء
لكن حتى هذه اللحظة فأن طاولة المعارضة لم تتمخض عن شيء يذكرحتى الآن..
والكل ينتظر ذلك المخاض والولادة القيصرية التي طال انتظار ما ستفر عنه في نهاية هذا الشهر كما يوعدون..