تركيا والخارج: امتحان الزلازل
للتذكير أولا. تمثل المناطق التي استهدفها الزلزال سدس الأراضي التركية ويعيش فيها سدس عدد السكان. وتشير توقعات العديد من المؤسسات والهيئات المحلية والعالمية إلى أن خسائر الاقتصاد التركي بسبب الكارثة قد تصل في مجموعها العام إلى 80 مليار دولار أي نحو 10% من الناتج القومي الإجمالي.
تركت كارثة الزلزال التي ضربت مدن جنوب تركيا، حكومة العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان أمام امتحان داخلي ثالث، أضيف إلى مواجهة تحديات الأزمة الاقتصادية والمعيشية العاصفة بالبلاد منذ عامين ومعركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة بعد نحو 4 أشهر، ومواصلة سياسة مراجعة العلاقات المتوترة مع العديد من العواصم في الخارج. ومن أجل ذلك وضعت السلطة السياسية خطة طوارئ وإنقاذ عاجلة، مصحوبة بإعلان حالة الطوارىْ لمدة 3 أشهر في المدن المنكوبة ودعوة المجتمع الدولي للوقوف إلى جانبها، لأن النكبة هي في المستوى الرابع الذي يتطلب الدعم الخارجي لمواجهة الكارثة.
أشارت التقارير بعد مرور أسبوع على النكبة إلى استجابة أكثر من 100 دولة ومنظمة إقليمية وعالمية فاعلة لنداء تركيا، بالوقوف إلى جانبها في كارثة الزلزال الذي ضرب مدنها الجنوبية في 6 شباط المنصرم. تنوعت المساعدات ورسائل التضامن بين شحنات إغاثية وطبية وحياتية ملحة، وبين حملات جمع التبرعات المالية العاجلة لتلبية احتياجات المنكوبين في أولى أيام الكارثة. الخطوة الثانية التي ترصدها أنقرة لناحية الدعم الخارجي ستكون حتما نتائج الجهد الدولي والأممي باتجاه برامج الدعم المالي واللوجستي لمساعدتها على تمويل خطة إعادة إعمار ما تهدم.
حراك الدوائر الجغرافية والسياسية التي تنتمي إليها تركيا باتجاه دعمها في الساعات الأولى على وقوع الكارثة لا غبار عليه. لكن مواصلة تلبية احتياجاتها وهي تتحرك صوب الخطوة الثانية يستدعي مواقف وقرارات أبعد من الشق الإنساني في الموضوع بعد الآن. المسألة تتعلق بعلاقات هذه العواصم مع أنقرة ومدى رغبتها في الوقوف إلى جانبها ودعمها ماليا لتمويل خطط إعادة الإعمار. كما تتعلق بدبلوماسية النفس الطويل في علاقاتها مع أنقرة واستعدادها لإعطائها ما تريد.
كيف ستتعامل الدول والمنظمات الأممية مع المحنة التي تعيشها تركيا؟
قد يواصل بعضها تقديم العون لمساعدتها على تأمين متطلبات المرحلة المقبلة. وقد يتوقف البعض الآخر عند ما قدمه حتى الآن متذرعا بأن تركيا ذاهبة نحو تقاطع انتخابي مصيري قد يبقي الحزب الحاكم وقياداته على رأس السلطة وقد يبعدهما لصالح تكتل سداسي وأنه لا يريد أن يكون طرفا في مرحلة سياسية داخلية يتم ربطها بكارثة الزلزال.
هل هناك من سيحاول الاستفادة سياسيا من ارتدادات الكارثة التي أصابت تركيا؟
طبعا. ولم لا طالما أن ذلك يندرج في إطار الواقعية والبراغماتية المبنية على المصالح في مفهوم العلاقات الدولية.
كيف ستكون بالمقابل ارتدادات الكارثة على سياسة تركيا الخارجية ومنظومة علاقاتها مع الدوائر المحيطة بها خصوصا وسط كثير من ملفات الخلاف والتباعد مع عواصم في الشرق والغرب؟
بغض النظر عن الجناح السياسي الفائز في الانتخابات المرتقبة، سيكون هناك حتما سياسة خارجية جديدة ترسم معالم المرحلة المقبلة وتقوم على كثير من الواقعية والبراغماتية المماثلة حيال من وقف إلى جانبها في محنتها خصوصا في معركة البناء وتوفير متطلبات تشييد ما تهدم. وإن ما قد يرضي أنقرة في هذه الأونة هو سماع عبارة “جاهزون لتقديم ما تحتاجونه من دعم”. لكن ما تريده أكثر هو الترجمة العملية لهذه العبارة.
دعا وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس، دول الاتحاد الأوروبي إلى وجوب تقديم الدعم لتركيا، وقال إنه سيطلع نظراءه الأوروبيين على نتائج زيارته الأخيرة إلى تركيا، ويعرض عليهم كيفية الوقوف إلى جانب المتضررين هناك. أجرى الرئيس عبدالفتاح السيسي من ناحيته، اتصالًا مع نظيره رجب طيب أردوغان، عقب كارثة الزلزال معربا فيه “عن تضامن الشعب المصري مع الشعب التركي الشقيق في هذه الأيام العصيبة”. بعد ذلك بأيام رست السفينة العسكرية المصرية “حلايب” في ميناء مرسين التركي الواقع في شرقي المتوسط وعلى متنها 650 طنًا من المساعدات الإنسانية المرسلة إلى ضحايا الزلزال. القطعة الحربية المصرية أمام شواطىء تركيا للتضامن مع الشعب التركي في محنته وليس لتوجيه رسائل سياسية أمنية عسكرية حول ضرورة احترام حقوق ومصالح مصر في هذه الجغرافيا.
الهدف اللا معلن بالنسبة للعديد من العواصم الإقليمية هو مساعدة الشعب التركي على تجاوز أزمته وبعدها نتحدث في السياسة والحسابات الاقتصادية والاستراتيجية. الحالة تنطبق على اليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وهي أطراف في مجموعة منصة شرق المتوسط التي دخلت في اصطفاف ومواجهة مع تركيا قبل سنوات لحماية مصالحها الغازية.
نعرف اليوم أن الدبلوماسية الشعبية هي التي انتصرت وهي التي ستفرض على القيادات السياسية كثيرا من الليونة والتغيير في مواقفها وقراراتها في العلاقة بين تركيا والعديد من الدول. لكننا نعرف أكثر أنه سيكون لكارثة الزلازل التي ضربت جنوب تركيا ارتداداتها السياسية والأمنية والاقتصادية على علاقات أنقرة مع كثير من دول العالم. وحتى لو كان هناك صعوبة في تقدير حجمها، إلا أننا نعرف أنها قد تتحول إلى فرص استراتيجية على طريق الانفتاح والتقارب باتجاه حلحلة كثير من الأزمات، وملفات الخلاف والتباعد الثنائي والإقليمي.
تعد رياضة ركوب الأمواج واحدة من الهوايات المعروفة في كثيرٍ من المدن الساحلية. يقوم الرياضي المغامر باعتلاء الموجات البحرية مستخدماً لوحاً خشبياً مصمماً بطريقة تساعده على السير فوق السطح المائي. يقال إنه قبل انتشار هذه الرياضة في الأوساط الشعبية على هذا النحو، كانت حاجة ووسيلة من قبل السفن التجارية القديمة لاكتشاف الساحل والاستثمار فيه عبر إرسال مستطلعين بهذه الطريقة. تحولت المسألة اليوم إلى رياضة ممتعة لكنها شاقة وفيها الكثير من الجهد فأهم متطلباتها هي الصبر والنفس الطويل والقدرة على التحمل. فرضت كارثة الزلزال على أنقرة بعد اصطفاف العشرات من الدول بين صديق وشريك أو منافس وخصم إلى جانبها، سياسة خارجية جديدة تتطلب السير فوق الأمواج وتحمل أعباء المغامرة وهي قد تتحول إلى فرصة لا تعوض عند الوصول إلى الشاطئ الذهبي لمعرفة ما ينتظرها هناك.