لم تمض سوى ساعات على انسحاب ميرال أكشنار زعيمة حزب «الجيد» من مجموعة الأحزاب الستة المنافسة للتجمع الحاكم في تركيا، حتى أعلن مجدداً عن عودتها وتأكيد تأييدها لمرشح المجموعة كمال كليجدار أوغلو زعيم الحزب الجمهوري.
ذلك الارتباك، الذي ظهر به التجمع المعارض، أوضح كم أن ذلك التحالف هش، فبعد تصريحات أكشنار، التي حاولت بها تبرير رفضها لترشح كليجدار وانسحابها من كتلة المعارضة الموحدة، توقع كثيرون أن يحدث انفراط في ما يسمى بـ»المائدة السداسية»، لكن تحليل الخيارات القائمة في ظل المستجد الجديد لم يكد يتشكل حتى عادت زعيمة «الجيد» للطاولة معلنة مرة أخرى التأييد والتضامن. أدى ذلك لبروز أسئلة وتساؤلات حول مدى نجاح هذه الأحزاب في التنسيق والعمل المشترك، سواء على المستوى الانتخابي، أو على المستوى البعيد في مرحلة ما بعد الفوز بالانتخابات، حتى بعد عودة أكشنار للتحالف، فإن مقترح كليجدار ووعوده بأن يكون له خمس نواب ممثلين للأحزاب الشريكة، يبدو أمراً غامضاً، سواء من ناحية إمكانية وفعالية تحقيقه، أو من ناحية جدية كليشدار في الاستمرار برئاسة متنازعة ومتعددة الرؤوس.
علّق كثير من المتابعين لحفل الإعلان عن المرشح المشترك للمعارضة على صورة أكشنار، التي على الرغم من ظهورها مجدداً، برفقة زعماء الأحزاب الخمسة الأخرى، إلا أن ملامح وجهها لم يبد عليها الرضا، وكأن موقفها حول قلة حظوظ كليجدار لم يتغير. في الواقع فإن هذه القناعة ما تزال موجودة في ذهن كثيرين، استناداً إلى هزائم كليجدار الانتخابية السابقة، وعلى خلفيته العقدية والفكرية، كونه يسارياً ومنتميا للطائفة العَلَوية، وهو ما قد يقلل من حظوظه.
بمقابل هذه النظرة يرى داعمو كليجدار والمعولون على فوزه، أن للرجل فرصة كبيرة، حيث أن بإمكانه أن يحصل بسهولة على دعم داخلي كبير من قبل اليساريين وأصحاب الرؤى العلمانية المتشددة، من الذين يؤمنون بأن العلمانية صارت مهددة في تركيا، كما أن بإمكانه أن يحصل على مساندة خارجية وفق نظرية تمكين الأقليات، التي تعتبر أن الدول الغربية تدعم الأقليات العرقية أو المذهبية في المنطقة وتساعدها على الوصول إلى الحكم. من جهة أخرى ينتمي كليجدار أيضاً إلى منطقة كردية، وهذا ما يمكن أن يجعله أيضاً المرشح الأقرب للأكراد. لم يكتفِ كليجدار بعناصر القوة التقليدية التي يملكها، بل سعى لكسب ود المتدينين، عبر إظهاره احتراماً غير مسبوق للحجاب، في تناقض مع تراث حزبه الجمهوري، وعبر اعتذاره المتكرر عن أخطاء حزبه التاريخية في التمييز ضد المحجبات، ودعوته لمنحهم الحقوق ذاتها التي تتمتع بها غيرهن، الأمر الذي وصل درجة الترحيب بهن وقبولهن أعضاء في الحزب. ظهر الحرص أيضاً على كسب القاعدة الشعبية المتدينة من خلال زعم كليجدار أنه من أحفاد النبي، عليه السلام، وأنه منتمٍ لأهل البيت بصفته حفيد المتصوف محمود الحيراني، أحد رفاق جلال الدين الرومي. كان من اللافت أيضاً إقامة حفل الإعلان عن المرشح المشترك في باحة حزب «السعادة» وهو الحزب الذي خرج من عباءة «الفضيلة» لمؤسسه الذي ارتبط في الأذهان بالسياسة المتدينة، نجم الدين أربكان. يمكن القول إن قوة الدعاية الانتخابية لكليجدار أوغلو تكمن، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أخطاء الحكومة الحالية، وانتقاد مجمل السياسة التركية، في محاولته خلط الأوراق بين ما هو إسلامي وما هو علماني، كأن الرجل يريد القول إنه لا يختلف عن الرئيس الحالي أردوغان، من حيث إنه علماني بروح وثقافة إسلامية، على الرغم من الأدبيات المعروفة لحزبه ومن خلفيته الشخصية الشيوعية.
نلاحظ هنا الدور المهم الذي تلعبه العاطفة الدينية في تركيا، التي تدفع، حتى أكثر الأحزاب تطرفاً في علمانيتها، لكسب تأييد الطبقات المتدينة، التي تمثل الكتلة الانتخابية الأكبر، والتي وإن تنوعت ما بين سنية ومتشيعة ومتصوفة، إلا أنها تتفق على أهمية الدور الروحي للدين، لذلك فإن تركيز كليجدار في دعايته على كونه من أحفاد النبي لا يمكن التقليل من شأنه، فنحن نتحدث عن بلد يؤمن كثير من أبنائه بأن هذه الصفة العائلية تمنح أفضلية لصاحبها. المفارقة هنا هي أن الحزب العلماني الأهم والرافض تاريخياً لتمدد الدين في الحياة العامة، أصبح أكثر استخداماً للخطاب المتدين الذي يحتشد بالرموز والمفردات الإسلامية، حيث نجد أن زعيمه يزور الأضرحة ويستشهد بالقرآن ويأخذ صوراً مع كتب إسلامية، وهو أمر لاحظناه أيضاً مع ترشيح الحزب لأكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول الحالي، الذي ظهر أيضاً بمظهر المتردد على المساجد والقارئ للقرآن. في مقابل هذا الخطاب العاطفي، الذي يهدف لكسب ملايين الأصوات من خلفيات عرقية وفكرية متباينة، يقدم أردوغان خطاباً تحت عنوان كبير هو «قرن تركيا»، وهو عبارة عن وعود طموحة باستدامة مشاريع التنمية، التي تبدأ من تعويض المتضررين من الزلزال الكبير الأخير وتنتهي بجعل تركيا تدخل ضمن قائمة أهم عشر دول في مجال الاقتصاد والعسكرة والعلوم، ما يحقق الفائدة لجميع أبنائها، أو كما يقول الشعار: «فرد سعيد، شعب مُرفَّه، ودولة قوية». ربما يكون للتراجع الاقتصادي وضعف الليرة التركية خلال العامين الأخيرين ظلال سالبة ومشوشة على هذه الوعود الطموحة، لكن التحالف الحاكم، خاصة قيادات «العدالة والتنمية»، يعولون على أنهم مختبرون من قبل الشعب وأن لهم رصيداً لا يمكن إنكاره من النجاحات، ذلك يدفع الناخب للمقارنة مع تحالف المعارضة، الذي يبدو الرهان على نجاحه أشبه بالمراهنة على مجهول، في ظل الاختلافات التي تظهر بين الحين والآخر بين أعضائه الذين ينتمون لخلفيات مختلفة.
المسألة الاقتصادية تشكل نقطة اهتمام لدى المرشحين، وهنا يبدو كليجدار أكثر انفتاحاً في تقبل «نصائح» الدول والمؤسسات الغربية بشأن الإصلاح الاقتصادي من أردوغان، الذي يتعامل بتشكك أكثر حول الموضوع، مفضلاً تجاهل الوصفات الغربية، التي يرى أنها تهدف لإغراق بلاده في الديون وجعلها في مرتبة التابع. بهذا الشأن يشير برنامج «قرن تركيا» للأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية، التي اعتمدت في عقودها الأخيرة بشكل مكثف على الواردات الغربية، سواء على صعيد التكنولوجيا أو حتى على صعيد الأفكار. النهضة الجديدة التي يحاول «العدالة والتنمية» قيادة البلاد نحوها تتميز بالمحافظة على الهوية والخصوصية التركية، عبر السعي لتوطين الصناعة والاعتماد بشكل أكبر على الذات، وهو الأمر الذي قطعت فيه تركيا بالفعل شوطًا كبيراً سمح لها بأن تحظى بمكانة مرموقة ضمن الاقتصادات العالمية. ملاحظة أخرى حول خطابات الرئيس أردوغان تتعلق بموضوع الانضمام للاتحاد الأوروبي، فبعد عشرين سنة من المحاولات الدؤوبة للانضمام، يبدو أن هذا البند تراجع قليلاً في سلم أولويات التحالف الحاكم، لسبب واضح هو ربط الدول الأوروبية، إحياء مسارات التفاوض بالقبول بالسياسات الأوروبية العامة، وبهيمنة القانون والقيم الأوروبية على القوانين والثقافة المحلية. الداعمون للرئيس أردوغان يؤمنون بأن هناك مؤامرة تهدف لإضعاف تركيا وتقليص دورها على الساحة الإقليمية والعالمية، وأن هذه المؤامرة تسعى لتغيير الطبقة الحاكمة الحالية لاستبدالها بمجموعة موالية لقوى الهيمنة العالمية. يذكر هذا الخطاب بمساعي دول كبرى إعاقة المشاريع الطموحة التركية وافتعال المشاكل معها، كما يذكر بمحاولة الانقلاب الفاشلة وبالحرب الاقتصادية الباردة، التي اشتدت خلال السنوات الأخيرة.