تحظى الانتخابات المقبلة في تركيا باهتمام بالغ يفوق الاهتمام بالاستحقاقات الانتخابية السابقة فيها، ولا يختلف اثنان على أهميتها بل يصفها الكثيرون بأنها مصيرية. وهي كذلك، إذ أنها قد تحدد مصير الكثيرين، أحزاباً وأفراداً وربما مصير/ مسار تركيا لعدة سنوات قادمة.
ينبغي على أي محاولة لاستشراف ثم تقييم نتائج الانتخابات القادمة أن تضع في الحسبان أنها انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، ما يعني أن حسابات الربح الخسارة ستكون مركّبة والنظر لها ينبغي أن يكون من أكثر من زاوية، لا سيما وأن السباق الانتخابي تخللته رهانات ووعود عديدة وينبني على نتائجه الكثير.
في المقام الأول، لا شك أن الفائز في الانتخابات الرئاسية هو أول الكاسبين وأوضحهم. فالبلاد تحكم حالياً وفق نظام رئاسي يمنح الرئيس صلاحيات واسعة تكاد تكون متغولة على السلطات الأخرى. وعليه، فإن فاز الرئيس أردوغان سيكون سجل انتصاراً كبيراً على تحالف واسع في ظل ظروف استثنائية من اقتصاد وزلزال وتراجع شعبية حزبه، وفي حال فاز كليتشدار أوغلو سيكون أوقف حكم أردوغان المستمر منذ أكثر من 20 عاماً وأعاد حزبه للحكم بعد عقود طويلة. وإن حصل وفاز أي من المرشَّحَين الآخرَيْن، إنجه وأوغان، سيكونان قد حققا مفاجأة كبيرة وتسببا بزلزال سياسي كبير في البلاد.
وفي أي من الحالات السابقة، لن يقلل من أهمية فوز أي من هؤلاء أي نسبة يحصل عليها حزبه و/أو تحالفه في الانتخابات البرلمانية، على أهمية الأخيرة.
بيد أن تبعات الانتخابات الرئاسية على الخاسر قد تكون كارثية، بل قد تصل لحد إنهاء حياته السياسية إذا ما اقترن ذلك بخسارة موازية في الانتخابات البرلمانية، وخصوصاً أردوغان وكليتشدار أوغلو. قد تكون فرصة حصول ذلك للرئيس التركي أقل حظاً من باب عدم وجود منافس حقيقي له داخل الحزب، بينما يبدو وضع زعيم المعارضة أكثر حساسية، فهو فرض نفسه مرشحاً داخل حزبه ثم على الطاولة السداسية رغم اعتراضات الحزب الجيد، وهناك بالتأكيد عدة منافسين مرشحين لخلافته في مقدمتهم المنشق عنه محرم إنجه.
وهكذا، فمعايير تقييم الانتخابات الرئاسية واضحة إلى حد كبير، بينما هي معقدة ومركبة إلى حد ما في الانتخابات البرلمانية، إذ ليس هناك معيار واحد يسري على الجميع.
فهناك في المقام الأول التقييم التقليدي المعتاد، أي ترتيب الأحزاب وفق النتائج الصادرة، لكنه معيار غير كاف أبداً في ظل التحالفات القائمة والوعود الانتخابية والتبعات المتوقعة.
فهناك مثلاً معيار الحصول على أغلبية البرلمان بالنسبة للتحالفات، ولا سيما تحالف الشعب/الأمة المعارض الذي يستهدف إعادة البلاد للنظام البرلماني، وبالتالي يحتاج لأغلبية مريحة في البرلمان المقبل (الثلثين لإقراره مباشرة، 60 في المئة لعرضه على استفتاء شعبي).
وهناك معيار المقارنة مع نتائج الانتخابات السابقة في 2018 بالنسبة للأحزاب، وبالتالي تقدم الحزب أو تأخره عن السابق. وهناك كذلك معيار التواجد في البرلمان وبالتالي في الحياة السياسية التركية بعد الانتخابات فيما يتعلق بالأحزاب حديثة التأسيس على وجه الخصوص.
وبناء على ما سبق، قد يكون التقييم الأدق لنتائج الانتخابات فيما يخص شخصيات أو أحزابا بعينها خلاصة تفاعل أكثر من عامل ونتيجة. فمثلاً، في حال خسر كليتشدار أوغلو السباق الرئاسي ستكون خسارة الشعب الجمهوري مضاعفة، لأن المنتظر أن يقدم عدة مرشحين من الأحزاب “الصغيرة” في التحالف المعارض على قوائم حزبه، ما سيعني تلقائياً تراجع عدد نوابه هو في البرلمان المقبل. وسيكون لهذا الأمر تداعيات أكبر في حال لم يُقدّر لهذا التحالف أن يستمر بعد الانتخابات.
في المقابل، تبدو الانتخابات المقبلة محددة لمصير عدد من الأحزاب حديثة التأسيس لا سيما تلك التي انشقت عن أحزاب كبيرة، وتحديداً حزبا المستقبل (بقيادة أحمد داود أوغلو) والديمقراطية والتقدم (بقيادة علي باباجان) المنشقان عن العدالة والتنمية وحزب البلد (بقيادة محرم إنجه) المنشق عن الشعب الجمهوري.
فهذه الأحزاب أمام احتمال الاختفاء والاندثار في حال لم تنجح في الانتخابات المقبلة، كتحالف في الانتخابات الرئاسية، ولكن الأهم في الانتخابات البرلمانية كأحزاب.
ولأن اختيار رؤساء هذه الأحزاب ضمن نواب الرئيس في حال فوز كليتشدار أوغلو ليس كافياً ولا مضموناً على المدى البعيد، فالهدف الأول والأولوية القصوى لهذه الأحزاب هو “التواجد” في المشهد السياسي المستقبلي من خلال إدخال عدد من مرشحيها للبرلمان، غالباً على قوائم حزب الشعب الجمهوري. الاستثناء هنا هو حزب البلد الذي فضّل دخول الانتخابات بقدراته الذاتية، بل ورشح رئيسه محرم إنجه للرئاسيات.
هذه المعادلة تظهر المعضلة التي واجهت هذه الأحزاب وضيّقت عليها خياراتها. فقد كانت هذه الأحزاب أمام أحد ثلاثة خيارات: إما التحالف مع الحزب الذي انشقت عنه للتقارب الأيديولوجي بينهما وهذا ممتنع سياسياً، أو التحالف مع الحزب الذي تتناقض معه تاريخياً وهذا مشكِلٌ أيديولوجياً، أو الاعتماد على الذات وهذا الذي فشلت فيه عملياً.
وأقصد هنا في المقام الأول حزبَي المستقبل والديمقراطية والتقدم، بينما سعى حزب البلد برئاسة إنجه للاعتماد على الذات ولم تتضح بعدُ حتى اللحظة فرصه في الانتخابات المقبلة، بينما يبدو أن الحزبين الأوليين توقعا عدم قدرتهما على ذلك فاعتمدا الخيار الثاني.
كنتُ قد كتبت هنا مقالاً بعنوان “داود أوغلو وباباجان ومحاذير الانتحار السياسي” قلتُ فيه إن ترشيح الرجلين لكليتشدار أوغلو للرئاسة سيكون مخاطرة كبيرة تقوّض مصداقيتهما أمام الشريحة الأهم لهما، مما قد يؤثر على مستقبلهما السياسي. وما زلتُ عند رأيي في المسألة، ولكنني أظن أن لها زاوية نظر إضافية ينبغي التنبه لها، إذ أزعم أن الرجلين ليسا غافلين عن هذا المعنى.
في ظني أنهما، داود أوغلو وباباجان، فاضَلا بين الخسارة الكاملة وتراجع المصداقية مؤقتاً، ففضّلا التشبث بما يمكن أن يمنحهما تواجداً في البرلمان وهو تحالف المعارضة، على أن يعملا لاحقاً على ترميم السمعة والمصداقية إن أمكن، لا سيما وأن هدفهما الرئيس منذ التأسيس هو مرحلة ما بعد أردوغان.
وعليه، ولئن كانت الظروف الحالية تظهر أن كليتشدار أوغلو استثمر وجودهما لضمان الترشح باسم المعارضة للرئاسة أمام أردوغان، فإن نجاح الحزبين في إدخال بعض قياداتهم للبرلمان على قوائم الشعب الجمهوري -الأمر الذي لم يكونوا ليستطيعوه وحدهم- قد يقدم صورة أو زاوية تقييم مختلفة بعد الانتخابات، لا سيما إذا ما خسر كليتشدار أوغلو السباق الرئاسي، ويمكن حينها أن يقال إنهما استفادا من التحالف معه لدخول البرلمان فخسر وفازا.
وعليه، نختم بما استهللنا به؛ أن تقييم الانتخابات المقبلة مركّب وله أكثر من زاوية نظر ويؤثر بعضه في نتائج بعضه الآخر، وما زال مسار الانتخابات في بداياته وبالتالي مفتوحاً على بعض التغيرات وربما المفاجآت المحتملة.