أموالنا التي تتبخر.. لماذا لا نتوقف عن اتخاذ قرارات مالية حمقاء؟

حسنا، لا تعتبرها إهانة حين نصف بعض الممارسات المالية بـ”الحماقة”، فهذا الوصف ليس من ابتداعنا على كل حال. في عام 2017 أقرّت جائزة نوبل في الاقتصاد بأهمية اعتبار “الحماقات” التي يرتكبها الأشخاص فيما يتعلق بقراراتهم المالية والكيفية التي يختارون إنفاق أموالهم بها جانبا مؤثرا في الاقتصاد والأسواق المالية. مُنحت الجائزة في ذلك العام إلى ريتشارد إتش ثالر، الاقتصادي الأميركي الذي تعزز إسهاماته بشكل رئيسي فكرة أن البشر لا يتصرفون بشكل عقلاني تماما، خاصة فيما يتعلق باتخاذ القرارات الاقتصادية.

حاول ثالر أن يوضح الفارق الكبير بين التوقعات التي تضعها الأدبيات المالية حول السلوكيات البشرية وبين ما يحدث فعلا على أرض الواقع. تفترض الأدبيات المالية الكلاسيكية أن الناس يتصرفون بشكل عقلاني تماما لتعظيم أرباحهم المتوقعة، لكن ما يحدث بالفعل في الأسواق قد يكون مختلفا بدرجة كبيرة عن هذا الافتراض.(1) جلب الركود العظيم الكثير من الاهتمام لتأثير التصرفات غير العقلانية فيما يتعلق بعمليات صنع واتخاذ القرارات المالية، وهو ما اهتم به ثالر في عمله الأكاديمي الذي امتد على مدار نحو 40 عاما.

كيف تتحكم الحماقة في قراراتنا المالية؟
مثال بسيط، تتبَّع راتبك الشهري، الذي تحصل عليه بعد قضاء ما يزيد على 160 ساعة من العمل شهريا، بمُعدل ثماني ساعات يوميا لمُدّة خمسة أيام أسبوعيا، وربما أكثر. بخلاف تلبية الاحتياجات الأساسية من مأكل ومسكن وعلاج، كيف توجه الباقي من راتبك؟ هل تُحاول الادخار أو تسعى للاستثمار أو تحاول تعلم مهارة جديدة لتحقيق النمو المهني؟ أم أن ما يحدث غالبا هو أن أي فائض مالي محتمل بعد تلبية الاحتياجات الأساسية “يتبخر” بسبب قرارات شرائية اندفاعية لا يقف وراءها أي سبب عقلاني؟

توضح أبحاث ثالر أن “الناس ليسوا أجهزة حاسوب مثالية”، وهو الأمر الذي يجعل الكثير من القرارات البشرية -ومنها القرارات المالية- تتسم بالقليل من العقلانية والكثير من الحماقة. القرارات المالية على وجه التحديد عادة ما تكون مرهقة للغاية، لأن عقلك يواجه تحديا كبيرا في اتخاذها، كما تخبرنا البحوث الحديثة في علم الأعصاب.

حسنا، من الواضح أن أدمغتنا تعمل بشكل جيد حقا حين يتعلق الأمر بتجنب المخاطر الكبرى والحفاظ على أنفسنا على قيد الحياة، لكنها ليست جيدة بما يكفي في اتخاذ هذا النوع من القرارات المعقدة التي تتطلبها التعاملات المالية.(2) السبب في ذلك هو أن هذه القرارات لا تقوم عادة على الاختيار بين إجابة واحدة صحيحة وإجابة أو عدة إجابات خاطئة، لكنها تتضمن العديد من الإجابات الصحيحة والخاطئة بنسب متفاوتة.

على سبيل المثال، لا توجد طريقة واحدة صحيحة لاستثمار المال، يُمكنك مثلا وضع أموالك في حساب توفير عالي العائد أو استثمارها في الأسهم أو الأصول الثابتة، وكلها خيارات يمكن أن تقودك في النهاية إلى الربح وزيادة أموالك. يوضح عالم الأعصاب سام بارنيت أن التوتر الذي يحدث أثناء اتخاذ القرارات المالية ينشأ عندما يجد الشخص نفسه في مواجهة مزايا وعيوب كل خيار من الخيارات السابقة، خاصة حين لا يشعر أنه على دراية كاملة بالخيارات وجوانبها المختلفة.

هناك ثغرة أخرى تسيطر من خلالها الحماقة على سلوكياتنا المالية، هذه النقطة هي الفجوة الكبيرة بين الجانب المُخطط والجانب الفاعل لدى كلٍّ منّا، لفهم ذلك يضرب ثالر مثالا بمشكلة السمنة المتزايدة التي تعكس بوضوح مدى سوء أداء البشر في تحقيق مصالحهم. عند محاولة التعامل مع مشكلة السمنة يظهر لدى كل فرد منّا شخصان مختلفان: الشخص الذي يخطط، والآخر الذي يفعل أو لا يفعل ما هو مُخطط له.

ربما يرى الشخص المخطِّط داخلك منطقا مثاليا في التسجيل للحصول على عضوية سنوية في صالة الألعاب الرياضية، وهنا يُتوقع من الشخص الفاعل الذهاب إلى صالة الألعاب كل يوم لتحسين اللياقة البدنية والتخلص من السمنة. لكن الشخص الفاعل ببساطة قد لا يملك من المثابرة والعزم ما يُمكنه من متابعة هذا الأمر، لذا فإنه يقوم بتأجيله مرارا وتكرارا. ما يحدث هنا ببساطة هو أن الصالات الرياضية تكسب أموالها وتُحقق أرباحها من خلال مناشدة الجانب المخطط من شخصيتك، وهي نفسها الطريقة التي تخسر بها أنت أموالك دون أن تحصل مقابلها على شيء حقيقي أو تتمكن من تحقيق الفائدة المرجوة.

بخلاف تعدد جوانب شخصياتنا، قد تسيطر “الحماقة” على قراراتنا المالية بسبب طبيعة تكويننا النفسي، الذي قد يتحدد بناء على ما مررنا به من تجارب وخبرات ورُبما صدمات حياتية. في الواقع فإن قلة من الناس هم الذين يعيشون حياتهم بالكامل دون التعرض لصدمة مالية من نوع ما، قد يبدأ التعرّض لمثل هذا النوع من الصدمات في الطفولة عندما يشاهد الطفل والديه يمرون بأزمة مالية ما، سواء كانت هذه الأزمة ناتجة عن الطلاق أو فقدان الوظيفة أو التعرّض للإفلاس. يمكن أن يؤدي التعرّض لمثل هذه الأحداث إلى تقويض القدرة على التعامل مع المال بإيجابية.

النشأة في أسرة متقلبة ماليا، أو تُعاني من أزمات مالية بشكل مستمر، تترك بصمة عميقة وتؤثر على كيفية تعامل الشخص مع المال في مرحلة البلوغ. قد تكون إحدى الاستجابات أن يصبح الشخص شديد التقيد في إنفاقه للمال إلى حد البخل، ورُبما قد يحدث العكس تماما، وهو أن تتحكم فيه الحماقة بالكامل، فيصبح الشخص غير مبالٍ بالمال، ويعتقد فقط أنه يجب أن يصل إلى الحد الأقصى من الاستمتاع بالمال اليوم لأنه قد يختفي غدا.(3)

سبب آخر قد يؤدي إلى تحكم الحماقة في القرارات المالية أظهرته ورقة بحثية عمل عليها مجموعة من علماء السلوك، من بينهم أبيجيل سوسمان، أستاذة التسويق المساعدة في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو بوث. أوضحت الورقة أن الأخطاء المالية تحدث عندما يفشل المستهلكون في فحص جميع خياراتهم عند اتخاذ القرارات النقدية. على سبيل المثال، قد لا يقوم العديد من مشتري المساكن بنظام التمويل العقاري بمقارنة البنوك أو الشركات المختلفة عند التقدم بطلب للحصول على قرض عقاري؛ هم يذهبون ببساطة إلى المؤسسة المالية الأولى التي اعتادوا التعامل معها ولديهم خبرة سابقة بها.

اقرأ أيضا

هوندا ونيسان وميتسوبيشي على وشك تشكيل ثالث أكبر عملاق سيارات…

أيضا يلعب السياق الاجتماعي دورا مهما في كيفية اتخاذ القرارات المالية. كثيرا ما يتخذ الأفراد قراراتهم بناء على الخيارات التي يختارها الآخرون، وأحيانا ما يكون دافعهم لاتخاذ خيارات بعينها جزئيا هو رغبتهم في إبهار الآخرين والحصول على إعجابهم. أنت هنا تنفق المال الذي جمعته بشق الأنفس، ليس لسد احتياج أو لتلبية رغبة حقيقية لديك، بل فقط لكي تفعل مثلما يفعل الآخرون، أو لكي تتباهى وترى الانبهار في أعينهم.(4)

هذا ما يحدث عندما تتحكم الحماقة
تقول المستشارة المالية، ميشيل سينجليتاري، خلال مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست: “التقيت بالعديد من الأشخاص الذين أحدثوا فوضى مالية عارمة في حياتهم على مدار سنوات، يأتون إليّ غارقين في الديون. غالبا ما يكون لديهم القليل من المال المدخر، بالإضافة إلى أن محافظ التقاعد الخاصة بهم، إذا كان لديهم واحدة، تكون منخفضة للغاية لدرجة أنهم يرجون أن يظلوا بصحة جيدة تُمكنهم من العمل في السبعينيات من العمر”. تُضيف سينجليتاري قائلة: “أكثر ما يدهشني بشأن هؤلاء الأشخاص هو أسفهم العميق لعدم معرفتهم كيف يمكنهم إدارة حياتهم المالية بشكل أفضل”.(5)

عندما تتحكم الحماقة والتهور المالي فإن أول ما يحدث هو أنك على الأغلب لن تتمكن من الادخار لحالات الطوارئ. يمكن أن تُشكل النفقات الصغيرة وغير المتوقعة نسبيا، مثل إصلاح السيارة أو فاتورة طبية متواضعة، صعوبة لدى العديد من العائلات. أوضح تقرير صدر عام 2017 من مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن 40% من البالغين الأميركيين قالوا إنهم إذا واجهوا نفقات غير متوقعة قدرها 400 دولار، فلن يتمكنوا من دفعها أو سيضطرون إلى اقتراض المال أو بيع شيء ما لتغطية المبلغ. (6)

بخلاف عدم القدرة على تغطية النفقات غير المتوقعة، قد تتسبب سيطرة الحماقة على القرارات المالية في صعوبة في الوفاء بالاحتياجات الأساسية ودفع الفواتير الشهرية، خاصة لدى البالغين من ذوي الدخل المنخفض. تقول سينجليتاري: “لقد عملت مع أشخاص يأتون إلى جلسة الاستشارة لإعداد الميزانية الخاصة بهم وبصحبتهم أكوام من الفواتير التي تحتاج إلى دفعها. في إحدى الحالات، كانت شركة المرافق قد حددت موعدا لإغلاق خدمة أحد الأشخاص في ذلك اليوم بالذات”.(5)

هكذا يتضح لنا أن اتخاذ قرارات مالية غير عقلانية قد يكون أحد أسباب الفقر. ثم ماذا؟ ما يحدث هنا أن الفقر بدوره يقود إلى المزيد من القرارات المالية غير العقلانية. هذا ما يوضحه تقرير صادر من البنك الدولي عام 2015 يؤكد حقيقة أن الفقراء أكثر عُرضة لاتخاذ قرارات مالية سيئة تجعلهم لا يتمكنون من الادخار. لكن التقرير لا يلوم الفقراء، فهو يقول إن الظروف القاسية والخيارات الصعبة اليومية المرتبطة بالفقر تفرض “كلفة” أعلى وأصعب على الموارد النفسية والاجتماعية للفرد، وتُحوِّل الفرد إلى صانع قرار سيئ.

يستشهد البنك الدولي بالعديد من الأعمال الأكاديمية لدعم النتائج التي توصل إليها، ومن بينها الأبحاث التي أجراها الأكاديميان سيندل مولايناثان وإلدار شافير في عام 2013، التي توضح أن العجز المعرفي الناتج عن الانشغال بالمشكلات المالية يُعادل خسارة 13 نقطة في اختبارات الذكاء، أو فقدان ليلة كاملة من النوم أو الإدمان على الكحوليات بشكل مزمن. يُضيف مولايناثان وشافير أن الفقر والمشكلات المالية الدائمة تقود إلى صعوبات واضحة في التفكير وضبط النفس، وهو ما يوضح لماذا من المرجح أن يتخذ الفقراء قرارات مالية خاطئة تؤدي إلى تفاقم الصعوبات المالية التي يواجهونها.(7

حتى لا تتحكم الحماقة
حسنا، هذا موعد السؤال الأهم: هل هناك ما يمكن فعله حتى لا تتحكم الحماقة في قراراتنا المالية؟ الإجابة بوضوح هي: نعم، هناك ما يمكن فعله. إذا كنت تشك في أن لديك عادات مالية قائمة على العواطف الناتجة عن تجربة مؤلمة سابقة تعرضت لها، فهناك طرق نفسية صحية تُمكنك من تفكيك الموقف وإقامة علاقة صحية بالمال.

يوصي أليكس ميلكوميان، وهو معالج مرخص للزواج والأسرة ومؤسس مركز علم النفس المالي في لوس أنجلوس، الأشخاص الذين يواجهون أزمات مالية متعددة قائلا: “قابل شخصا لديه خلفية طبية للتعمق في طريقة تعاملك مع الأموال ومعرفة وتحديد سبب تصرفك بالطريقة التي تتصرف بها. عندما تعالج هذه الدوافع، يمكنك بعدها الحصول على استشارة متخصصة من مستشار مالي”.(5)

هناك أيضا بعض الطرق والخطوات التي يُمكنك فعلها والالتزام بها على المستوى الشخصي لتحقيق أقصى قدر من العقلانية في قراراتك المالية، منها وضع ميزانية تُحدد خلالها أوجه نفقاتك واحتياجاتك. قد لا يحب الكثير من الناس وضع الميزانية، ويجادلون بأن الميزانية مقيدة للغاية. عندما تتبنى وجهة النظر هذه وتتجنب وضع ميزانية فإنك تفقد الدراية بتدفقاتك النقدية الداخلة والخارجة، وهو ما يُفقدك بدوره القدرة على أن تتخذ قرارات مالية أكثر استنارة وعقلانية. إذا كانت الأرقام في ميزانيتك تخبرك بوجود عجز ما، فهنا يجب أن تُخفض بعض نفقاتك وتقبل بمستوى أقل بعض الشيء عند تلبية احتياجاتك. من خلال هذا يُمكنك أن تعرف أن ميزانيتك ليست عدوك، بل هي مرشدك. (7)

سيكون عليك أيضا محاولة التوفيق بين جانبك المخطط وجانبك الفاعل حتى لا تُهدر أموالك بلا فائدة تُذكر، إذا دفعت اشتراك صالة الألعاب الرياضية لمُدة عام فسيكون عليك أن تُحفز نفسك وتُنمي إرادتك لتحقيق ما خططت له، وحتى لا تُصبح الأموال التي دفعتها أموالا مُهدرة.

المصدر: الجزيرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.