يعد السلطان مراد الثاني من أبرز حكام الدولة العثمانية، بل يراه بعض المؤرخين المؤسس الثاني بعد مؤسسها الأول عثمان بن أرطغرل.
تولى مراد الثاني السلطنة بعد وفاة أبيه محمد جلبي عام 1421، وكان عمره لا يتعدى 18 عاما. وفق تقرير نشرته وكالة الأناضول التركية.
ذكر التاريخ لنا كثيرا من الملوك والحكام الذين تنازلوا عن عروشهم، وقليل منهم من عاد إلى عرشه مرة أخرى، لكنه لم ينقل إلينا أن أحدا من الملوك نزل من على عرشه مرتين، وعاد إليه مرتين، سوى السلطان العثماني مراد الثاني.
وبحسب التقرير، كانت حياة السلطان مراد الثاني حافلة بالنضال، سواء على الصعيد الداخلي وما يواجهه من اضطرابات وقلاقل وحركات تمرد برعاية غربية، أو على صعيد المواجهات للدول الغربية التي تكالبت عليه لوقف فتوحات العثمانيين في أوروبا واستئصال شأفة هذه الدولة المسلمة.
فقد واجه حلفا صليبيا كبيرا باركه البابا تكوّن من المجر وبولندا والصرب وجنوة والبندقية وبيزنطة والألمان والتشيك وغيرهم، استهدف طرد العثمانيين من أوروبا.
وعُرف السلطان مراد الثاني بالعدل والتقوى والشفقة والجدية والاستقامة، وما زاد من شهرته أنه والد السلطان محمد الفاتح الذي تحقق على يديه حلم المسلمين في فتح القسطنطينية.
وليس هذا المقام مقام عرض سيرة السلطان مراد الثاني ومآثره وإنجازاته، لكننا نتعرض في هذه السطور إلى فرية تاريخية تقول إن هذا السلطان تنازل عن العرش مرتين لابنه محمد، بهدف التفرغ لحياة الترف واللهو والشرب والعربدة.
هذه الفرية لم يقل بها سوى الغرب الموتور الذي عمد إلى تشويه صورة الدولة العثمانية التي رفعت رايتها في أنحاء أوروبا، وتبعه في ذلك كتّاب الأمة المتأثرون بكل ما هو غربي.
وهذا كفيل بدفع هذه التهمة عن ذلك السلطان الذي شهد له القاصي والداني بالاستقامة والجدية والنزاهة، وصرف كثيرا من جهوده لخدمة اللغة والثقافة العثمانية.
نعم، تنازل السلطان مراد الثاني مرتين لولده محمد عن العرش، لكن لسبب آخر غير الذي أورده هؤلاء الناقمون على الدولة العثمانية.
فبعد أن تغلب مراد الثاني على المجريين عام 1438 وأسر منهم سبعين ألف جندي، تقدم لفتح بلغراد، لكنه واجه حلفا صليبيا من مختلف دول أوروبا. فاضطر إلى طلب الصلح عام 1444.
وعندما عاد إلى الأناضول، فُجع بموت ولده الأمير علاء، ولما كانت البلاد في مأمن بعد إبرام المعاهدات، رغب في حياة الخلوة والتعبد بعيدا عن السياسة والحرب، فتنازل عن العرش لولده محمد.
يقول محمد فريد بك في كتابه الشهير “تاريخ الدولة العلية العثمانية”: “وعقب ذَلِك (أي بعد المعاهدة)، توفّي أكبر أولاد السُّلْطَان واسْمه عَلَاء الدّين، فَحزن عَلَيْهِ وَالِده حزنا شَدِيدا وسأم الْحَيَاة، فتنازل عَن الْملك لِابْنِهِ مُحَمَّد الْبَالِغ من الْعُمر أرْبَعْ عشرَة سنة، وسافر هُوَ إِلَى ولَايَة آيدين للإقامة بَعيدا عَن هموم الدُّنْيَا وغمومها”.
ويبيّن الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه “محمد الفاتح” سبب تنازل السلطان مراد الثاني عن العرش لولده أنه بسبب صغر سن ابنه محمد، “أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من رجال دولته، ثم ذهب إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى، ليقضي بقية حياته في عزلة وطمأنينة، ويتفرغ في هذه الخلوة إلى عبادة الله والتأمل في ملكوته بعد أن اطمأن إلى استتباب الأمن والسلام في أرجاء دولته”.
وهناك سبب صحي ذكره المؤرخ التركي أحمد آق كوندز في كتابه “الدولة العثمانية المجهولة”، فيقول: “وأهم سبب من أسباب هذا الاعتزال كان سببا صحيا، إذ أصابه الإرهاق والإجهاد الشديد في حياته التي قضاها في ساحات الحرب والقتال، والسبب الآخر معنوي وروحي، لأنه أراد التفرغ للعبادة والطاعة، وقد ذكر المؤرخون هذا بكل وضوح”.
إذن، كانت أسباب اعتزاله التي ذكرها المؤرخون هي الحالة الصحية السيئة والحزن على فقدان ولده والرغبة في التفرغ للعبادة والطاعة.
وهنا ربما يسأل سائل: هل يسوغ لملك أو سلطان أن ينصرف عن الحكم وتصريف أمور الدولة لأسباب شخصية بحتة كهذه ويضرب بمصالح بلاده عرض الحائط، إذ يولي صبيا صغيرا على دولة مترامية الأطراف؟
نجيب على ذلك بأمرين: الأول، أن السلطان مراد الثاني قد أحاط ولده برجال الدولة الأمناء الذين يشدون مُلكه ويسندون ظهره، في وقت وضعت الحرب أوزارها بعد المعاهدة التي أبرمها واستتب الأمن في دولته.
الأمر الثاني، أن السلطان كانت عينه على إدارة ولده للبلاد، ولم يضرب بمصلحتها عرض الحائط، بدليل أنه عاد إلى العرش فور تعرض البلاد للخطر.
فبعدما علم البابا أوجين الرابع بنبأ تنازل مراد الثاني عن العرش لولده، طلب من المسيحيين نقض العهد مع العثمانيين، فحشدوا الجيوش لمحاربة الدولة العثمانية، وحاصروا مدينة فارنا البلغارية التي تحررت على أيدي المسلمين.
ولما تحركوا باتجاه الدولة العثمانية، بعث رجال الدولة إلى السلطان للقدوم ومواجهة الصليبيين، فقاد السلطان مراد الثاني بعد اعتلائه العرش جيوشه لمواجهة الزحف الصليبي، وانتصر عليهم في موقعة عظيمة، والتقى مراد الثاني وجها لوجه بالملك المجري لاديسلاس وتمكن من قتله، وكان النصر للعثمانيين في سهول قوصوه في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1448.
وبعدما اطمأن السلطان مراد الثاني على أحوال البلاد، تنازل مرة أخرى لولده عن العرش، وعاد إلى حياة العزلة والتفرغ للعبادة، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى عندما ثار الإنكشارية في أدرنة، وتمرّدوا.
عندها، خشي كبار رجال الدولة على البلاد والسلطان الحديث السن، فبعثوا إلى السلطان مراد الثاني، الذي عاد مرة أخرى إلى عرشه صيانة لأمور الدولة، وبقي على عرشه حتى موته.
يتبين مما سبق أن السلطان مراد الثاني كانت له أسبابه المشروعة ودوافعه المقبولة لاعتزال الحكم، إذ لم يكن اعتزاله بهدف التفرغ لحياة الترف واللهو والشرب كما روّج خصوم الدولة العثمانية، إضافة إلى أنه لم يكن قرارا أنانيًا يقدم فيه رغباته الشخصية على مصلحة الدولة.
إلى ذلك، أحاط السلطان مراد الثاني ولده بكبار رجال الدولة المخلصين ليعينوه على شؤون الحكم، وكانت عينه على ولده. وما إن تعرّضت بلاده للخطر.. حتى عاد إلى العرش لقيادة البلاد ضد أعداء الخارج ومتمرّدي الداخل.