تركيا الآن

مرحلة جديدة في العلاقات التركية المصرية

في عصر العولمة الذي بلغ ذروته اليوم، تظل العلاقات السياسية بين الدول محدودة ما لم تتطور العلاقات الاقتصادية أولاً. ومن هذا المنطلق، نظم “منصة أبحاث واستراتيجيات أوراسيا” (ASAD) “منتدى الأعمال” في مصر بعد تونس. وكان توقيت المنتدى، الذي انعقد قبيل قمة مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية (D-8)، ذا أهمية خاصة.

شهد المنتدى مشاركة نحو 40 رجل أعمال تركي من مختلف القطاعات، بينما كانت المشاركة من الجانب المصري لافتة للغاية، حيث حضرت أكثر من 200 شركة مصرية لعقد لقاءات ومباحثات.

تعد مصر دولة ذات أهمية كبيرة تاريخيًا، إذ تقع في موقع استراتيجي شهد قيام واحدة من أعرق الحضارات في العالم القديم. وقد تم توقيع أول معاهدة مكتوبة في التاريخ، وهي “معاهدة قادش”، بين مصر والحيثيين. ويمكن القول إن ولادة الدبلوماسية المكتوبة حدثت أيضًا في مصر.

مصر بلد تجمعنا بها روابط تاريخية عميقة. كانت رسميًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1914. إلا أنها وقعت تحت سيطرة فرنسا بين عامي 1798 و1801، ثم احتلتها بريطانيا في عام 1882، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أصبحت مصر رسميًا تحت السيطرة البريطانية.

استمر تأثير السلالة التركية في مصر حتى إعلان الجمهورية في عام 1953.

النيل كل شيء بالنسبة لمصر
نهر النيل ليس مجرد مجرى مائي بالنسبة لمصر، بل هو شريان الحياة. رؤية كيف شكّل النيل ليس فقط تاريخ مصر بل حاضرها أيضًا كانت تجربة مدهشة. هذا النهر العظيم ليس فقط وسيلة نقل، بل هو قلب التجارة والزراعة والتفاعل الثقافي، حيث يحتضن كل الديناميكيات التي تؤثر على مصر وحتى إفريقيا. كلما ابتعدنا عن نهر النيل، تصبح الأراضي أكثر تصحرًا. ولهذا السبب، يُطلق على الجزء الخصيب من مصر “البلد الأسود”، بينما يُطلق على الجزء القاحل “البلد الأحمر”.

الاقتصاد المصري يكافح الصعوبات
يواجه الاقتصاد المصري تحديات كبيرة نتيجة عدة عوامل، منها: انخفاض قيمة العملة، تأثيرات الحرب الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا التي تسببت في تباطؤ الاقتصاد العالمي، إضافة إلى التوترات الإقليمية، وعلى رأسها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

وأشار تقرير البنك الدولي عن مصر إلى انخفاض حاد في الاحتياطات الرسمية والأصول بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومن أجل التخفيف من تأثير ارتفاع الأسعار، لجأت الحكومة المصرية إلى إطلاق العديد من الحزم الاقتصادية. ومع ذلك، عندما لم تكن هذه الإجراءات كافية، طلبت الحكومة دعمًا من صندوق النقد الدولي.

يواجه الاقتصاد المصري مشكلة مزمنة تتمثل في العجز التجاري الخارجي، حيث يتضاعف حجم الواردات مقارنة بالصادرات. ومن أبرز وارداته الوقود المعدني والزيوت والآلات والأجهزة الميكانيكية. ورغم ثراء النيل، احتلت مصر المرتبة الخامسة عالميًا في استيراد الحبوب في عام 2023. (انظر الرسم البياني 1)

 

صندوق النقد الدولي: ترتيب الاقتصاد المصري عالميًا
يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2024 حوالي 380 مليار دولار، مما يجعلها تحتل المرتبة 43 كأكبر اقتصاد في العالم من بين 196 دولة. ومع ذلك، يتوقع أن تحتل المرتبة 135 عالميًا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

يمكن الشعور بهذا التفاوت في العديد من أنحاء العاصمة. فغالبية الشعب المصري تعاني من صعوبات اقتصادية. عند مغادرتنا المطار، لفتت الفوضى والمساحات المهجورة في المناطق السكنية على طول الطريق انتباه الجميع. وواجهنا المشهد نفسه في العديد من مناطق القاهرة. هذا الوضع دفعنا جميعًا للتحدث عن “التطوير الحضري”، خاصة أن تركيا تُعد من رواد قطاع البناء عالميًا، ولكن كونها دولة معرضة للزلازل يجعلنا نتساءل عن أولوية السلامة. عند رؤية المباني في بعض المناطق، من الصعب ألا تفكر في مدى هشاشتها أمام أي زلزال محتمل.

وفي الوقت نفسه، أوضح لنا المرشد السياحي أن هناك مناطق جديدة يتم إنشاؤها في القاهرة. عندما زرنا هذه المناطق لاحقًا، كان الاختلاف في مستوى المعيشة بينها وبين المناطق الأخرى واضحًا للغاية، مما جعلنا ندرك بوضوح عدم المساواة في توزيع الدخل.

السياحة: شريان حياة للاقتصاد المصري
تُعتبر السياحة عنصرًا حيويًا للاقتصاد المصري، حيث تجذب المواقع الأثرية القديمة وسواحل البحر الأحمر زوارًا من جميع أنحاء العالم. إذا حاولنا سرد التراث الثقافي لمصر، فلن يسعنا المجال هنا، وهذا ما يجعل قطاع السياحة من أبرز القطاعات الاقتصادية، حيث يساهم بنسبة تتراوح بين 10% و15% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر فرص عمل لملايين الأشخاص.

كان لنا الحظ في استكشاف جزء صغير من هذا التراث الغني، خاصة في القاهرة والمناطق المحيطة بها. هذه المدينة الساحرة تقدم مزيجًا فريدًا من الآثار القديمة ونمط الحياة الحضري الحديث. تحتاج إلى ثلاثة أيام على الأقل لاستكشاف القاهرة وحدها.

الأهرامات: أعجوبة هندسية
كانت محطتنا الأولى في رحلتنا أهرامات الجيزة. تعتبر هرم خوفو، أحد عجائب العالم القديم، بارتفاع يتجاوز 147 مترًا، تحفة هندسية تتحدى الخيال. ورغم اختلاف أحجام أهرامات خفرع ومنقرع المجاورة، فإنها تترك التأثير نفسه. وأثناء تأملنا لهذه الأهرامات، تبادر إلى أذهاننا السؤال: هل هي من صنع البشر أم أن للكائنات الفضائية دورًا فيها؟ .

إلى جانب الأهرامات، يجذب تمثال أبو الهول الانتباه بصفته رمزًا للغموض والعظمة. صمود أبو الهول أمام الزمن يثير التأمل في الأحداث التي شهدتها هذه الأرض عبر التاريخ.

المتحف المصري الكبير: نافذة على الماضي
يقع المتحف المصري الكبير بجوار أهرامات الجيزة، وقد صُمم ليكون أكبر متحف أثري في العالم. ورغم أنه لم يُفتتح بالكامل بعد، فإن الأجزاء المفتوحة منه تقدم لمحة مذهلة عن تاريخ مصر القديمة. يبدأ الزائر رحلته بمواجهة تمثال رمسيس الثاني، الذي يقدم مقدمة مبهرة لعظمة مصر القديمة. يعكس المتحف ببراعة الحرفية المصرية القديمة وفهمها للجمال. إنه ليس مجرد معرض للآثار، بل تجربة تجسد تطور الحضارات ومسيرة التاريخ الإنساني.

خان الخليلي: قلب القاهرة النابض
في قلب القاهرة يقع خان الخليلي، السوق التاريخي الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر. خلال الحقبة العثمانية، كان يُعرف باسم السوق التركي. تجذبك الأزقة الضيقة بروائح التوابل والعطور الغريبة وأعمال النحاس والمجوهرات الذهبية. في خان الخليلي، لا تكتفي بالتسوق، بل تصبح جزءًا من تقليد يمتد لمئات السنين. ورغم سحر المكان، يمكنك أيضًا أن تلمس الإرهاق الذي حل به عبر الزمن، حيث تعاني بعض أجزائه من التدهور.

لغة الأم لغة الطفل
أثناء تجولنا في الأزقة الضيقة للسوق التاريخي، توقفنا عند مقهى “الفيشاوي”. هذا المكان ليس مجرد مقهى؛ بل يُشبه ملاذًا للأحلام والأفكار والأشعار. وأكثر ما لفت انتباهنا صورة معلقة على الجدار للشاعر التركي الكبير محمد عاكف أرصوي، والتي علقها معهد يونس إمرة. كان عاكف يقضي وقته هنا عندما كان في المنفى. وبينما كنت أرتشف فنجانًا من القهوة التركية، ترددت في ذهني أبياته. هذا المقهى لا يقدم فقط القهوة، بل يُحاكي روح الماضي لزواره.

دور معهد يونس إمرة في مصر
يستحق معهد يونس إمرة تسليط الضوء عليه. هناك اهتمام كبير بتعليم اللغة التركية في مصر، حيث تكتظ جميع الدورات بالطلاب الذين يظهرون التزامًا كبيرًا ومعدل استمرار مرتفع. لكن المثير للاهتمام أن غالبية الطلاب من النساء. والسبب بسيط: “لغة الأم هي لغة الطفل”، كما يقول المثل.

ميدان التحرير: رمز الثورة المصرية
مكان آخر كان له أهمية خاصة بالنسبة لي هو ميدان التحرير. لا يمكنني دراسة العلاقات الدولية دون زيارة هذا الرمز للثورة المصرية ضد حكم مبارك في عام 2011. عندما رأيت الميدان، أدركت أن هذه الثورة لم يكن بإمكانها أن تبدأ في أي مكان آخر. التحرير لا ينام أبدًا، ويمكن القول إن الحياة في مصر تبدأ بعد الظهيرة. ومن بعدها، تصبح الشوارع مكتظة إلى درجة أن إلقاء إبرة قد لا تجد لها مكانًا لتسقط فيه.

العلاقات التجارية بين مصر وتركيا
وفقًا لإحصائيات عام 2023، تحتل تركيا المرتبة الأولى في صادرات مصر بنسبة 9% (4 مليارات دولار). وفي المقابل، زادت واردات تركيا من مصر بنسبة 43% مقارنة بالعام السابق، حيث تحتل مصر المرتبة 22 في قائمة الدول الأكثر تصديرًا إلى تركيا. أما بالنسبة لواردات مصر، فتتصدر الصين القائمة بنسبة 16% (13 مليار دولار)، بينما تحتل تركيا المرتبة الثانية بنسبة 3% (3 مليارات دولار). وفي صادرات تركيا، تحتل مصر المرتبة 18. لكن في عام 2023، سجل الميزان التجاري بين البلدين عجزًا لصالح مصر بقيمة 307 ملايين دولار.

 

الشركات التركية تحول مصر إلى قاعدة إنتاج
ارتفاع تكاليف الإنتاج في تركيا دفع الشركات التركية إلى البحث عن مواقع إنتاج بتكاليف أقل لتتمكن من المنافسة في الأسواق الدولية. يعتبر انخفاض تكلفة العمالة في مصر وكثافة السكان التي توفر سوقًا واسعة من أبرز العوامل التي تجعل مصر بيئة جذابة للمستثمرين الأتراك.

تتمتع مصر باتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، ودول أمريكا الجنوبية، والدول الإفريقية، مما يوفر فرصًا كبيرة للتصدير من خلال التصنيع في مصر. وقد حققت العديد من الشركات التركية الكبرى استثمارات ضخمة في مصر، حيث تجاوز حجم الاستثمارات التركية 3 مليارات دولار. كما أن الشركات التركية تمثل نحو ثلث إجمالي صادرات مصر من المنسوجات والملابس الجاهزة.

منصة ASAD تحقق إنجازات هامة
بعد تونس، نظمت منصة “أبحاث واستراتيجيات الفكر الأوراسي” (ASAD) “منتدى الأعمال” في مصر بمشاركة واسعة. وافتتح المنتدى رئيس المنصة مراد دوغاناي، الذي أكد في كلمته على أهمية شمال إفريقيا باعتبارها جسرًا استراتيجيًا للقارة الإفريقية. وأوضح قائلاً:
“تُعد دول المنطقة مثل المغرب، الجزائر، تونس، ومصر بوابة استراتيجية تمثل إمكانيات اقتصادية هائلة للوصول إلى القارة الإفريقية. ونعتقد أن على تركيا الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة التي توفرها منطقة شمال إفريقيا التي تربطنا بها علاقات تاريخية قوية.”

السفير التركي يشيد بتطور العلاقات الثنائية
من جانبه، أشار السفير التركي لدى مصر، صالح موتلو شن، إلى أن العلاقات السياسية التي تم تأسيسها مؤخرًا بين مصر وتركيا ساهمت في ترميم العلاقات التاريخية بسرعة ملحوظة. كما أشاد السفير باستثمارات رجال الأعمال الأتراك في مصر، لا سيما في قطاع النسيج.

ورغم هذا التركيز على قطاع النسيج، إلا أن تنوع القطاعات المشاركة في المنتدى لفت انتباهنا. فقد شملت المشاركات قطاعات متعددة، منها مكاتب المحاماة، الأجهزة المنزلية الصغيرة، الحديد والصلب، السياحة، الحبوب، والعطور، مما يعكس تنوعًا مثيرًا للإعجاب.

 

العلاقات السياسية بين تركيا ومصر
أدى قيام عبد الفتاح السيسي في عام 2013 بالإطاحة بالرئيس محمد مرسي إلى توتر كبير في العلاقات بين تركيا ومصر. حيث اتخذت تركيا موقفًا صارمًا، ما أدى إلى قطع شبه كامل في العلاقات بين البلدين واستمر هذا الوضع لما يقرب من عقد. ومع ذلك، تشير التطورات الحالية إلى تغير واضح في سياسة تركيا تجاه مصر، وهو ما قوبل بردود فعل إيجابية من الجانب المصري. وكان أحدث هذه الخطوات تبادل الزيارات الرسمية، وكان آخرها قمة مجموعة D-8 التي عُقدت في القاهرة. يبدو أن العلاقات بين تركيا ومصر ستشهد قفزة كبيرة في كافة المجالات خلال السنوات المقبلة.

فرص وتحديات العلاقات التركية المصرية
تُعد كل من تركيا ومصر من القوى الرئيسية في المنطقة. ورغم أن تعارضهما قد يؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة على استقرار المنطقة، فإن تعاونهما وتحالفهما سيخلق تأثيرات إيجابية كبيرة. بمعنى آخر، فإن توازن القوى في المنطقة يتأثر بشكل كبير بطبيعة العلاقات بين البلدين.

لا تزال هناك تحديات سياسية بارزة بين تركيا ومصر، مثل قضايا تقاسم الموارد في شرق البحر المتوسط والموقف من الأزمة الليبية. لكن إذا تم استغلال الإمكانات الكبيرة للتعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين، يمكن إيجاد حلول لهذه القضايا التي تبدو معقدة.

جهود جديدة لتعزيز العلاقات الثقافية والتعليمية
أحد الأمثلة البارزة على هذا التعاون أعلنه رئيس مجلس التعليم العالي التركي، إيرول أوزفار، عبر حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث كشف عن بدء العمل على تأسيس جامعة تركية-مصرية، مع افتتاح فروع لجامعات تركية مرموقة في مصر. وخلال التجول في القاهرة، يمكن ملاحظة وجود العديد من الجامعات البريطانية والأمريكية، مما يعكس أهمية التعليم العالي كجسر للتواصل الثقافي بين الدول.

الاحتفاء بالذكرى المئوية للعلاقات الدبلوماسية
يُصادف عام 2025 الذكرى المئوية لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ومصر. وتُعد الجهود المبذولة لاستقبال هذا الحدث التاريخي فرصة كبيرة لتعزيز العلاقات بين البلدين على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، وفتح صفحة جديدة في مسيرة التعاون الثنائي.

 

الكاتب التركي : راغب كوتار كارانا – ترجمة وتحرير تركيا الان

أحدث الأخبار

تفاصيل مروعة حول فاجعة الضباب في تركيا

وقع حادث مروري مروع على طريق كيرشهير، حيث اصطدمت ثلاث سيارات، بما في ذلك حافلة…

06/01/2025

أنقرة تنهي حربًا قبل أن تبدأ

بعد نجاحها في إنهاء التوتر بين إثيوبيا والصومال، تدخلت تركيا مجددًا لحل أزمة أخرى في…

06/01/2025

أصحاب السيارات في تركيا يبدؤون العام الجديد بزيادة في أسعار الوقود

اعتبارًا من منتصف هذه الليلة، سترتفع أسعار الوقود. ومن المتوقع أن يزداد سعر لتر البنزين.…

06/01/2025

آخر مستجدات الذهب في تركيا: كم بلغ سعر غرام وربع الذهب اليوم؟ أسعار الذهب (6 يناير 2025)

يترقب المستثمرون تطورات أسعار الذهب اليوم الاثنين، 6 يناير 2025، مع استمرار تأثير التطورات الاقتصادية…

06/01/2025

أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة التركية اليوم

شهدت أسعار صرف الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية في السوق الحرة بإسطنبول اليوم السبت، الموافق…

06/01/2025

تراجع إقبال الخليجيين يهز سوق الذهب التركي

  حذر ممثلو قطاع المجوهرات التركي من تزايد عمليات تهريب الذهب إلى البلاد بسبب الحصص…

06/01/2025