جمعةٌ أخرى حارة وشديدة الرطوبة كما هي عادة أيام الصيف في مدينة إسطنبول، والكُل ينتظر غروب الشمس بعد نهار صيفي طويل أملًا في انخفاض الحرارة ولو بضع درجات في المساء، ومن ثم الاستمتاع بليلة الجمعة قبل استقبال عُطلة نهاية الأسبوع، لكن أحدًا لم يستمتع هذه الجمعة أبدًا، فهي ليلة ساخنة وطويلة طالت كل دقيقة فيها وكأنها يوم كامل، وأفسدت على الجميع الاستمتاع بعُطلة السبت والأحد المعتادة قبل العودة لأعمالهم، لا سيّما موظّف الدولة الأهم:هاكان فيدان.
بينما تسري الحياة على طبيعتها خارج أسوار مكتبه، يجلس هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية وقت الظهيرة بعد أن وصلته الأنباء عن نية عدد من الضباط القيام بانقلاب صباح اليوم التالي، ليقرر الاجتماع بعدد من كبار قيادات الجيش في تمام الساعة الثالثة عصرًا لاتخاذ الإجراءات اللازمة، وهي إجراءات تنتشر بين كافة الضباط بحلول الساعة السادسة: يُمنع بتاتًا أي طيران عسكري حتى إشعار آخر، وتُمنع حركة أية معدات عسكرية من مواقعها.
هل كان ما جرى يوم الخامس عشر من يوليو دليلًا على ولاء هاكان فيدان للرئيس، أم استقلاله برأيه في التخطيط والعمل منفردًا مع قيادات الجيش؟ أم ربما كليهما في آن؟ |
سرعان ما أدرك الانقلابيون بأن الإجراءات تعني ببساطة انكشاف مخططهم، وتحوّلهم من مُدبري انقلاب سيتم فجر اليوم التالي والجميع نيام، إلى قُطب في صراع مع من كشفوا مخططهم وبات بحوزتهم تقريبًا نصف يوم لتدبير حراك مضاد لوقف الانقلاب، وهي مدة طويلة نسبيًا كما رأوا، ليقرروا أن المخرج الوحيد هو تقليصها، ومن ثم التبكير بالتحرّك في المساء بدلًا من فجر اليوم التالي.
كتبت تلك اللحظة وما تلاها سقوط الانقلاب بكافة خطواته الواحدة تلو الأخرى، فالدبابات التي كان لها أن تتحرك في الفجر، لفتت أنظار الجميع وهي على جسر البوسفور في المساء، والضباط الذين أوكل لهم محاصرة أردوغان في فندقه بمدينة مرمريس كانوا قد قطعوا اتصالهم بعد الظهيرة مع قيادتهم وفقما أملت الخُطة، ومن ثم فاتهم كل ما استجد من أنباء، والتي وصلت لأردوغان نفسه بعد تحرّك الانقلابيين ليستقل طائرته ويُلقي مكالمته الشهيرة عبر فيستايم، وهي مكالمة جرت فقط نتيجة لفشل الانقلابيين في الاستحواذ على مقر شركة تُركسات المسؤولة عن الاتصالات.
ساعات حاسمة كتبت انتصار الحراك المُضاد للانقلاب، وتلتها على مدار أيام دعايات المنتصرين كما هي سُنة السياسة دومًا، فقد تزيّنت إسطنبول بصور شهداء راحوا ضحايا مواجهة الانقلابيين، وظهرت للنور بطولاتهم في الصُحف، مُضافة لمواقف واضحة داعمة للحزب الحاكم من شخصيات لفتت النظر دومًا باعتبارها غير متوافقة مع الرئيس مثل عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو، بل وأقطاب المعارضة أنفسهم من العلمانيين والقوميين الأكراد على السواء.
اتجهت الأضواء لكُل هؤلاء إلا واحد فقط هو هاكان فيدان، فالرجل الذي لعب الدور الرئيس في مواجهة الانقلاب بل وكشفه قبل موعده نُظِر له تارة باعتباره الشخصية الحاسمة في كسر الانقلاب وكشفه، وتارة أخرى باعتباره مستهترًا ومتقاعسًا لعدم إبلاغه الرئيس فور علمه بالمخطط في الظهيرة، ولعدم اكتشافه لوجود مخطط ضخم كهذا في وقت سابق؛ فهل كان اكتشافه للانقلاب قبل نصف يوم إنجازًا أم استهتارًا إذن؟ وهل كان ما جرى يوم الخامس عشر من يوليو دليلًا على ولائه للرئيس، أم استقلاله برأيه في التخطيط والعمل منفردًا مع قيادات الجيش؟ أم ربما كليهما في آن؟
الطائرة على وشك الإقلاع إلى مدينة مونشنجلادباغ الألمانية، حيث تقبع قاعدة راينلاند البريطانية، والتي تستخدمها كافة القوات التابعة لحلف الناتو كما جرت العادة منذ أيام الحرب الباردة التي انتهت لتوّها. في أحد المقاعد يجلس هاكان فيدان، ضابط الصف التركي الشاب، متحمسًا لأول رحلة يقوم بها للخارج، بعد سنوات من العمل كفني كمبيوتر في وحدة معالجة البيانات الأتوماتيكية التابعة للجيش التركي.
ثلاث سنوات قضاها هاكان في إدارة الاستخبارات بمقر قوات التدخل السريع لحلف الناتو بألمانيا، واقتنص فيها فرصة الحصول على شهادة جامعية بالالتحاق بجامعة ماريلاند كوليدج الأمريكية، والتي تملك فروعًا في بلدان عدة لتمنح الضباط الأمريكيين فرصة الدراسة وهم بمهامهم العسكرية بالخارج، وهي سنوات اكتشف فيها هاكان أيضًا شغفه بالعلوم السياسية والإدارية، وعدم انسجامه مع فكرة الاستمرار في المؤسسة العسكرية.
يعود هاكان إلى أنقرة محمّلًا بالكثير من الأفكار والطموحات والتجارب التي لا تناسبه أبدًا كضابط صف تركي، ومن ثم يتجه لدراسة الماجستير في جامعة بيلكنت المرموقة بالتوازي مع عمله العسكري، ليحصل عليها عام 1999 برسالة عن دور الاستخبارات في السياسة الخارجية التركية، ومقارنة دورها الخارجي الهزيل آنذاك مع الاستخبارات البريطانية والأمريكية، والدروس المستفادة من هذين النموذجين.
ملامحه الجادة وطبيعته الرتيبة لعلها أكثر انسجامًا مع توليه مهمة سياسية وإدارية من الطراز الرفيع كما أراد دومًا، وليس مهمة دبلوماسية تأخذه حول بلدان العالم المختلفة |
تسيطر على هاكان عوالم الاستخبارات والعلاقات الخارجية منذ عودته من ألمانيا، ليقرر أخيرًا ترك المؤسسة العسكرية بشكل رسمي عام 2001 بعد خمسة عشر عامًا من العمل فيها، ويتجه للعمل كمستشار سياسي واقتصادي للسفارة الأسترالية في أنقرة لعامين، وهي فترة قام فيها برحلات شتى للخارج، وبدأ نشاطات أكاديمية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومعهد نزع السلاح التابع للأمم المتحدة، ومركز بحوث وتدريب ومعلومات التحقق في لندن.
بينما يخطو هاكان بخطواته الواثقة بعيدًا عن المؤسسة العسكرية، تخطو معه تركيا بالتوازي خطواتها أيضًا بعيدًا عن هيمنة الجيش، وحين يترُك هاكان عمله بالسفارة الأسترالية عام 2003، يكون أردوغان وعبد الله غول ورفاقهما قد وصلا للسُلطة، ويتزايد الحديث عن دور جديد لتركيا وأحلام العودة سياسيًا للشرق، وهي أحلام يصبح أحمد داوود أوغلو منظّرها الأول بدراساته عن العُمق الاستراتيجي لتُركيا، والذي سرعان ما يصبح مستشارًا للسياسة الخارجية لرئيس الوزراء الجديد، ورُغم عدم حصوله على الاهتمام الإعلامي نفسه آنذاك، يحصل فيدان في الحقيقة على الاهتمام نفسه من جانب أردوغان، ليعيينه رئيسًا لوكالة التعاون والتنسيق التركية المعروفة اختصارًا بـ”تيكا”.
يصل فيدان أخيرًا إلى محطة ترضيه ومقعد يستوعب طموحاته عن دور تركيا الخارجي، ليتربع على عرش المؤسسة المسؤولة عن دور تركيا الناعم الاقتصادي والثقافي في العالم، والتي تأسست عام 1992 بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بالتزامن مع رغبة تركيا الاهتمام ببلدان آسيا الوسطى والقوقاز وتعزيز الروابط الثقافية والدينية بينها وبين بلدانها، ولكن فيدان سرعان ما يأخذ تيكا لما هو أبعد من ذلك، ويجلب نشاطات الأتراك لشتى أنحاء العالم العربي وأفريقيا.
بمرور الوقت يتبيّن سريعًا بأن تيكا، رغم نجاحات فيدان، ليست كبيرة بما يكفي لطموحاته، وليست هي بالضبط الموقع الصحيح لإمكانياته، فالرجل الذي عمل بمجال الاستخبارات العسكرية لربما ليس الأنسب ليكون وجه تركيا الناعم في نهاية المطاف رغم اهتمامه بدورها الخارجي، وملامحه الجادة وطبيعته الرتيبة لعلها أكثر انسجامًا مع توليه مهمة سياسية وإدارية من الطراز الرفيع كما أراد دومًا، وليس مهمة دبلوماسية تأخذه حول بلدان العالم المختلفة.
لحسن حظه، ستتيح مهمته السياسية والإدارية الجديدة التي تولاها عام 2010، إلى جانب العلاقة الوثيقة التي يحظى بها مع وزير الخارجية الآن داوود أوغلو، والثقة الكبيرة التي وضعها فيه أردوغان، أن ينفّذ كل ما خطته يداه في رسالة الماجستير عن إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات، وبلورة دور واضح وفعال له في السياسة الخارجية، ولكن لسوء حظه، ستكون مهمته تلك سببًا في استقراره بالعاصمة أنقرة مسقط رأسه وسط مؤسسات الدولة القابعة هناك، بعد أن اعتاد الترحال مديرًا لتيكا.
شديدة الملل هي مدينة أنقرة العاصمة التُركية، حتى أن الأتراك يقولون بأن أجمل ما فيها هي الطرق السريعة المؤدية لإسطنبول، فلا شيء جميل هنا إلا ما يُبعدك عن تلك المدينة الرمادية كما تُعرف، والتي لم تتجاوز كونها بلدة صغيرة حتى مطلع القرن العشرين، حين قرر مؤسسو الجمهورية نقل العاصمة إليها، وتدشين كافة مؤسسات الدولة الوليدة هناك، ومن ثم نمت المدينة مع توافد موظفي البيروقراطية والجيش القاطنين فيها، وهي شريحة سكانية ساهمت في طابعها الثقافي الرتيب والجديّ.
هنا وُلِد ونشأ هاكان فيدان، وهو أمر تعكسه شخصيته بشكل واضح، فالرجل لا يظهر أو يتحدث إلا نادرًا، ولا تتسم أحاديثه القليلة بأية حيوية أو كاريزما، بل يعمل في صمت وانضباط كما يشهد له زملاؤه في الجامعة منذ كان طالبًا للماجستير ثم الدكتوراه، وهو أمر تشي به لغته الرتيبة في رسالتيه لنيل الشهادتين، بالمقارنة مع الأسلوب الأكثر جذبًا لأحمد داوود أوغلو.
فيدان لم يُلق بالًا للطموحات السياسية الصِرفة على غرار أردوغان، بل ولم يمتلك الكاريزما الكافية أبدًا ليحوز موقع السلطان، وكان موقعه كرئيس الاستخبارات يمنحه كل ما أراد لتنفيذ خططه |
علاقة وطيدة جمعت بين الرجلين القادمين من أنقرة وقونيا، لكن المسافة الشاسعة بين العاصمة الإدارية والعاصمة الروحية تكشف في النهاية فارقًا كبيرًا في الطبائع والمسار السياسي بين داوود أوغلو، رجل الفلسفة والمسلك الأكاديمي الذي حمل على عاتقه رؤية واسعة لدور تركيا في العالم وفق موقعها وتاريخها، وفيدان، رجل الدولة والمسلك الاستخباراتي والعسكري الذي أتى بخُطة مفصّلة لإعادة تعريف مهام الاستخبارات كواحدة من أركان هذا الدور.
من أنقرة، حيث لا تاريخ تقريبًا، وحيث عُزلة جغرافية عن بحار العالم وأحداثه الكبرى، وحيث مؤسسات عملت بدأب منذ ما يقارب القرن في كنف نظام جمهوري صارم عزم على قطع صلته بتاريخه وجواره الجغرافي، أتى فيدان واعيًا بضرورة تغيير الكثير من كل ذلك الإرث، لكنه لم يفلت أبدًا من روح أنقرة، فهي تسم رؤيته ودراساته وطبيعته الشخصية وطموحاته، التي لم تتجاوز حدود مدينته الحديثة وإرث مؤسساتها ورتابة موظفيها.
لعل الاستثناء الوحيد كان سنواته الثلاث في قاعدة راينلاند بألمانيا خلال التسعينيات بعد نهاية الحرب الباردة، التي لفتت انتباهه لعملاقي الاستخبارات الغربيين، الولايات المتحدة وبريطانيا، ولاستراتيجيات الدول الغربية الكبرى والتوتر بين ألمانيا الموحّدة لتوّها وروسيا وغير ذلك، وربما الالتفات ولو قليلًا لأهمية الأسئلة الكبرى بخصوص الجغرافيا والتاريخ والهوية والأيديولوجيا، وهو التفات لم يؤثر كثيرًا على فيدان في النهاية بقدر تأثير عمله الاستخباراتي اليومي هناك، كما تخبرنا بذلك دراساته وسياساته اليوم.
على النقيض كان داوود أوغلو، الذي لم يترك أبدًا إرث قونيا الفلسفي، علاوة على ما حمّلته به إسطنبول من تساؤلات عن الثقافة والهوية وماضي الإمبراطورية وأحلام استعادتها، ففيدان ليس شغوفًا أبدًا لا بسؤال فلسفي ولا بإرث عثماني ولا بهوية إسلامية، فكُل ما يشغله هو التساؤلات التي حمّلته إياها المدينة الرمادية: مستقبل الدولة والعلاقة المعقدة بين الاستخبارات والشرطة والجيش والسُلطة ودور كل ذلك في تنفيذ رؤيته الخاصة، وهي رؤية يحاول باستمرار أن يحافظ على شعرة معاوية بينها وبين السلطان، وهي مهمة لعله نجح فيها أكثر مما نجح داوود أوغلو.
في السابع من فبراير 2015، قرر فيدان أن يقلب الساحة السياسية التُركية رأسًا على عقب، ليعلن استقالته من منصبه على رأس جهاز الاستخبارات، وترشّحه للبرلمان على قائمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في انتخابات يونيو، وهو إعلان تبعته تكهّنات بتعيينه من جانب رئيس الوزراء آنذاك داوود أوغلو في منصب وزير الخارجية.
على اختلاف الطبائع والاهتمامات بين الرجلين، إلا أن العلاقة بين داوود أوغلو وفيدان ظلت في الحقيقة علاقة وطيدة طوال الوقت، وهي علاقة جمعتهما فيها عقلانية ورؤية أكاديمية رصينة لم تنسجم على طول الخط مع مزاج السلطان الحاد والأقل عقلانية في أحيان كثيرة، ورغم ولاء الرجلين لقيادة أردوغان، إلا أن ذلك لم يمنعهما من امتلاك الرغبة في الميل بالكفة لصالح رؤى سياسية أكثر اتزانًا.
لم يمضِ وقت طويل حتى عبّر السلطان عن سخطه على تلك الخطوة التي جرت دون علمه، والتي كانت لتجعل من الحكومة فعليًا قطبًا سياسيًا مستقلًا يلتف حوله نقّاد أردوغان في الحزب، وهو ما أراده فيدان وأوغلو لتعديل الموازين المختلة تمامًا لصالح السلطان ليس إلا، والتخفيف من تركيز عملية صناعة القرار التي أحكم قبضته عليها، وليس كنوع من الحراك المضاد لإقصائه بشكل أو آخر في حزب لا يفكّر فيه أحد أبدًا بتجاوز شرعية السلطان وإن اختلف معه البعض.
أعلن أردوغان بكُل صراحة بأنه لا يرغب برؤية فيدان، “كاتم أسراره وأسرار الدولة” كما يسميه، خارج منصبه بجهاز الاستخبارات، لا سيما وهو المسؤول عن ملفات محورية مثل إدارة الملف السوري، والتفاوض مع حزب العمال الكردستاني، وتطهير جهاز الدولة من أتباع فتح الله كولن، وإعادة هيكلة المنظومة الاستخباراتية والأمنية، وهي مهام لا يعتقد بأن هنالك أكفأ من فيدان للقيام بها.
على مدار شهر كامل ظلت التكهنات حول فيدان هي الشغل الشاغل للسياسة التُركية، وظلت التساؤلات حول أسباب الخطوة التي قام بها، وهي خطوة لم تبدُ عقلانية في الحقيقة على عكس عادة الرجل، فهاكان الذي كّرس دراساته لرؤيته عن إعادة هيكلة الجهاز الاستخباراتي والأمني في عصر ما بعد الحرب الباردة ليليق بدور ريادي لتركيا، ويمنحها القدرة على لعب أدوار عسكرية ودبلوماسية متعددة في محيطها، لم يلق بالًا للطموحات السياسية الصِرفة على غرار أردوغان، بل ولم يمتلك الكاريزما الكافية أبدًا ليحوز موقع السلطان، وكان موقعه كرئيس الاستخبارات يمنحه كل ما أراد لتنفيذ خططه.
لعله أراد إذن أن يشغل دور “الصدر الأعظم” في المنظومة السياسية التركية بشكل أو آخر، أو ظن بأنه سيحوز مقعد داوود أوغلو إذا ما رحل الأخير يومًا ما ليصير هو رئيسًا للوزراء، لكن قبضة السلطان أثبتت ثقلها في نهاية المطاف، لتُجبره على العودة لمنصبه الأصلي بعد شهر واحد فقط من تلك الخطوة، وتُطيح بداوود أوغلو خلال عام واحد، تاركة فيدان وحيدًا بعقلانيته وعمله الدؤوب وسط غابة سياسية تزداد جنونًا.
يظل هاكان رغم ذلك على ولائه لأردوغان، وعلى عدائه مع كولن ألد أعداء القصر الرئاسي حاليًا، لكنه يحتفظ بمسافة بينه وبين أردوغان، لا من أجل مستقبله السياسي إن تبدلت الأحوال، ولكن للحفاظ على رؤاه التي خطها بيده في أنقرة حين كان أردوغان عُمدة في مدينة إسطنبول يستحوذ على قلوب الأتراك بخطاباته وحماسته كسياسي إسلامي، وكان هو بعيدًا عن كل ذلك الضجيج الإسطنبولي غارقًا في الكتب وخرائط المؤسسات التركية المحيطة به في العاصمة.
بعد أعوام طويلة، تظل إسطنبول تمنح ولاءها لمن يداعب مشاعرها العثمانية، ومن يمنحها الحلم في استعادة مجدها ولو سقط على رأسها في النهاية |
هو ربما الشخص الأكثر علمًا بدهاليز الدولة التُركية اليوم، أكثر حتى من أردوغان نفسه، وهو أمر يجعله أكبر في الحقيقة من كونه “صدر أعظم” للدولة التركية يستطيع السلطان أن يتخلص منه بجرة قلم أو بمؤامرة من داخل القصر (أو الحزب)، فالسلطان بحاجة له مثلما هو بحاجة لمباركة السلطان ليستمر في منصبه، وهو منصب يتمتع بصلاحيات شبه مُطلقة يعيد فيها رسم معالم الدولة بتفاصيلها، وهي معالم تستحوذ فيها الاستخبارات على دور مركزي مشابه لدور الاستخبارات المركزية الأمريكية داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهو النموذج الذي يتطلع له فيدان في عالم يبدو واضحًا عدم جدوى المؤسسات العسكرية النظامية فيه بقدر المؤسسات الاستخباراتية والأمنية.
للمفارقة، يشبه فيدان اليوم كثيرًا مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التُركية رُغم ما يغيّره بيده وسياساته من إرث الرجل، وهو شبه يتعلق بشخصيته ووتيرة عمله وصعوده السياسي لا فكره أو رؤيته، ففيدان القادم من أنقرة لم يفهم أبدًا عالم إسطنبول والدور الذي تلعبه فيها النوستالجيا العثمانية والعواطف الإسلامية في صنع قامات سياسية مثل أردوغان، تمامًا كما لم يفهم مصطفى كمال الضابط الشاب يومًا ما الشرعية المتجذرة للسلطان في المدينة رغم ضعفه، بل وجنونه الصريح في أحيان كثيرة.
بينما ظلت إسطنبول بلا عقلانيتها على ولائها للبيت العثماني حتى وهو ينهار على رأس أصحابه، كان مصطفى كمال قد أطلق العنان لخططه ورؤاه عن الدولة التركية الجديدة، وصولاته وجولاته في قلب الأناضول حيث استشعر الناس الخطر بشكل أكبر، وآمنوا برسالته العقلانية وعمله الدؤوب، وهو جميل رده أتاتورك بسلب إسطنبول من حقها في أن تكون المركز السياسي، وكأنه يريد إبعاد السياسة عن تلك المدينة المجنونة، وتدشين العاصمة في قلب الأناضول.
بعد أعوام طويلة، تظل إسطنبول تمنح ولاءها لمن يداعب مشاعرها العثمانية، ومن يمنحها الحلم في استعادة مجدها ولو سقط على رأسها في النهاية، وتظل أنقرة معقلًا للرتابة والعقلانية الصارمة والتحفُّظ على امتلاك أية أحلام غير محسوبة، ورُغم أن فيدان محسوب اليوم على مشروع سياسي يأخذ تركيا كما يفترض لعصر ما بعد أتاتورك، إلا أنه في الواقع الرجل الوحيد ربما في ذلك المشروع الذي يحمل معه شبح أتاتورك، ولا يشارك رفاقه أي مشاعر “إسطنبولية” لإحياء إرثها العثماني أو ما شابه بقدر ما يعمل على مشروع “دولة جديدة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
مثله مثل أتاتورك، ينزوي فيدان نوعًا ما في مكتبه اليوم منكبًا على خططه، وهو يحتفظ بمباركة السلطان لأهميتها حتى يجِد جديد، تمامًا كما فعل أتاتورك يومًا ما، والذي ظل يشير لنفسه كخادم في جيش جناب السلطان، لكنه احتفظ في الحقيقة بمسافة كبيرة بينه وبين إسطنبول أتاحت له حماية خطته من السقوط حين سقط الأخير، بل وأتاحت له أن يتربع هو على عرش تركيا منفردًا في نهاية المطاف.
.
المصدر/الجزيرة_ميدان