حظيت الرسالة الطويلة التي نشرها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو بالكثير من الاهتمام في الأوساط السياسية الداخلية والخارجية.
دعك هنا من تلك الزفة التي صنعتها وسائل إعلام “الثورة المضادة” العربية، والتي وجدتها فرصة للنيل من أردوغان؛ ليس بسبب دكتاتوريته، بل لأن رموزها يرونه جزءا مما يسمى “الإسلام السياسي” الذي صار مرضهم المزمن. وكان عليها أن تشعر ببعض الخجل حين تتعاطى مع رسالة من هذا النوع دون أن تسأل نفسها عن إمكانية حدوث شيء كهذا في الدول التي تدافع عنها، أعني خروج مسؤول سابق بانتقاد علني للزعيم.
لا حاجة للتذكير بأهمية صاحب الرسالة، ولا بنزاهته وعمق ثقافته، ولولا ذاك ما حظي بتلك المكانة التي حظي بها في حزب العدالة والتنمية، ولا بمكانته أيضا في الأوساط الشعبية التركية، لكن ذلك ضروري في هذا السياق الذي نحن بصدده، لأنها تشير إلى أنها رسالة مردها الإخلاص للبلد، ولرسالة الحزب، فيما يبدو البعد الشخصي فيها أكثر من هامشي.
لم يكن المحبون لتركيا ودورها في حاضر الأمة ومستقبلها في حاجة إلى رسالة أوغلو كي يدركوا أن هناك مسلسلا من الأخطاء قد تواصل خلال السنوات الأخيرة؛ ليس منذ الانقلاب في العام 2016 فحسب، بل قبل ذلك أيضا، وهي أخطاء ذات صلة بالتقدير السياسي للوضع الإقليمي والدولي، وأخرى ذات صلة بالإدارة الداخلية، والأخيرة هي الأهم.
لا حاجة إلى تعداد أخطاء السياسة الخارجية، وإن كان المرور عليها مهما، إذ أن الهاجس الأكبر للرسالة هي تلك الأخطاء الداخلية التي أفضت إلى ذلك التراجع المضطرد في شعبية الحزب. وحتى لو لم يكن تراجعا دراماتيكيا، إلا أنه مؤشر بالغ الأهمية دون شك، لأن الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية لا تموت بالسكتات القلبية، وإنما تموت بالشيخوخة؛ حين يبدأ مددها من الشباب بالتراجع، تبعا لفقدان الثقة بالقيادة وبالمسار.
من المؤكد أن ميل أردوغان إلى التفرد، وتقريب من ليسوا أهلا لذلك، مقابل إبعاد المخلصين لأن لهم رأيا مخالفا أحيانا، هو العامل الأهم في تراكم الأخطاء. والتفرد الذي نعنيه هنا ينطبق على الحزب وعلى الدولة في آن، الأمر الذي عزز الانقسام في المجتمع، وإن كان جزء من ذلك مفهوما كردة فعل على الانقلاب، من دون تبرير توسيع حملة الاستهداف على النحو الذي جرى، والتي يبدو أنها تخضع لمراجعة من الأفضل أن تتسارع.
لا أحد يشكك في تاريخ أردوغان، ولا في إنجازاته، ولا شجاعته الفريدة، لكن تراكم الأخطاء لا يمكن أن يكون إيجابيا، إن كان في إدارة الشأن الداخلي أم الخارجي. وقد رأيناه في الشق الخارجي مرارا يصعد إلى أعلى الشجرة بمواقف حدية، ثم ما يلبث أن يهوي بطريقة غريبة؛ من قضية الطائرة الروسية إلى قضية القس الأمريكي، وسوى ذلك، الأمر الذي أثر على الاقتصاد بجانب عوامل أخرى.
ليست هذه السطور تقييما لأدائه، فرسالة أوغلو قدمت تفاصيل كثيرة في سياق تفسير حالة التراجع، وما يمكن قوله في هذه السطور القليلة هو أن عليه أن يستمع إلى المخلصين، ويقرّبهم، ويبعد الفاسدين الذين يسيئون إليه، في ذات الوقت الذي ينبغي عليه أن يبدي نوعا من المرونة في إدارة الدولة، ويذهب نحو مصالحات داخلية تخفف من الانقسام الاجتماعي، وتعيد للحزب بريقه في الأوساط الاجتماعية.
هذا هو المسار الصحيح الذي ينقذ الوضع من مزيد من التدهور، وإذا لم يحدث ذلك، فإن خروج بعض رموز الحزب، ومنهم أوغلو وعبد الله غل وسواهما وتأسيس تجربة أو تجارب أخرى سيكون مرجحا، وإن كان من الصعب عليهم تكرار تجربته مع أربكان بحذافيرها.
لا خلاف على أن ما تعرّضت له تركيا في الأعوام السبع الأخيرة بسبب ما جرى في سوريا، ومن ثم الانقلاب وتداعياته؛ كان صعبا وقاسيا، وقد يتصاعد أكثر، ومن الطبيعي تبعا لذلك أن يرتبك الأداء، لكن المراحل الصعبة، هي التي تحتم إجراء المصالحات الداخلية، وتقريب المخلصين والكبار والأقوياء، وليس إبعادهم لصالح محدودي الإمكانات الذين يوافقون على كل شيء، فضلا عن الفاسدين أو الانتهازيين.
بواسطة /ياسرالزعاترة