تركيا تَبني أكثر من 2000 مسجد حول العالم، وتقدم مساعدات إنسانية، فما الذي يزعج بعض الدول؟

على مساحة 10 آلاف متر مربع، وبجدران مغطاة بالحجر الرمادي، وتعلوه قباب ومآذن لا تشبه أي مبانٍ سابقة في المنطقة، تستعد العاصمة الألبانية في البلقان، بعد بضعة أشهر، لافتتاح المسجد الأكبر بالمدينة كلها.

هذا المسجد الذي يُبنى على الطراز العثماني واحد من سلسلة مساجد ضخمة جديدة تشيدها حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الداخل والخارج، أحدها في أكرا العاصمة الغانية، وهو الأكبر بغرب إفريقيا. وآخر في بيشكيك، بقرغيزستان، وهو الأكبر في آسيا الوسطى، بحسب مجلة The Atlantic الأمريكية.

كما أن هناك مجمعاً يُبنى في ولاية ماريلاند، هو الأكبر من نوعه في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

هناك ما لا يقل عن ألفي مسجد آخر تختلف أحجامها تمولها أنقرة، وما زال هناك مزيد من المساجد الأخرى خُطِّط أو تدور حولها المناقشات، في أماكن مثل فنزويلا، حيث يدعم أردوغان حكومة نيكولاس مادورو المحاصَرة؛ وفي كوبا، التي زعم أردوغان أنَّ البحارة المسلمين وصلوا إليها قبل كريستوفر كولومبوس.

عند اكتمالها، يظل كثير من هذه المساجد تحت سيطرة أنقرة، وتُقدِّم في مناطق بها جالية تركية  الخطبة الأسبوعية نفسها التي توزعها الدولة بكل مدينة وبلدة وقرية داخل تركيا.

 

واجه أردوغان انتقادات من القوى الغربية، وفي السنوات الأخيرة وسَّعت حكومته قواها الناعمة تدريجياً بحملة عالمية، والمساجد هي النتيجة الأكثر بروزاً في تلك الحملة.

تدعم هذه الحملة التعليم الديني، وتقدم برنامجاً لترميم المباني العثمانية، والعمليات الاجتماعية والإغاثية واسعة النطاق.

رحب معظم المستفيدين بالمساعدة، لكن قليلاً منهم، خاصة في ألمانيا، يشعرون الآن بالقلق من أنَّ النفوذ التركي يمكن أن يعمق انقساماتهم الطائفية، أو حتى قد يكون وسيلة للتجسس.

يطمح أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» إلى أن تكون تركيا «أكثر من بلد عادي، أن تكون شيئاً أكبر».

والمساجد التركية تديرها وتُوجهها رئاسة الشؤون الدينية، أو «ديانت»، وهي هيئة حكومية تُوظف الأئمة، وتكتب الخطب، وتصدر الفتاوى.

ما هي مؤسسة رئاسة الشؤون الدينية «ديانت»؟

تأسست ديانت عام 1924، لكنها نمت بسرعة تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، وتتمتع بصلاحيات عالمية طموحة.

يوجد الآن أكثر من 100 ألف شخص على جدول رواتبها، وتضاعفت ميزانيتها بأكثر من أربعة أضعاف منذ ولاية أردوغان الأولى في منصب رئيس الوزراء عام 2006، لتصل هذا العام إلى 12.5 مليار ليرة (ملياري دولار).

غالباً ما تسد «ديانت» فجوات نقص التمويل بالبلدان المتلقِّية، كما فعلت في ألبانيا. عندما فرض الديكتاتور الألباني أنور خوجة، إلحاد الدولة عام 1967، حُظرت الممارسات الدينية على الملأ، وهُدمت أماكن العبادة أو غُيِّر نشاطها.

وبعد سقوطه وجد السكان، الذين يقسمون إلى 57% مسلمين و10% كاثوليك و7% أرثوذكس، أنفسهم بلا مساجد أو كنائس، ويفتقرون إلى وسائل بنائها. تدفقت الأموال الأجنبية: وضع البابا يوحنا بولس الثاني حجر الأساس لكاتدرائية الروم الكاثوليك عام 1993، وبعد بضع سنوات بدأت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية العمل على واحدة من كبرى الكنائس من نوعها في أوروبا.

لفترة من الوقت بقيت أغلبية تيرانا المسلمة محرومة من المساجد. لم ينجُ من عصر خوجة سوى مسجد أدهم باي فقط في وسط العاصمة، ويتسع لعشرات المصلين فحسب.

لذلك وافق عمدة المدينة، إيدي راما، عام 2010، على بناء مسجد جديد، بتمويل من تركيا. حضر أردوغان حفل وضع حجر الأساس، وشكر راما، الذي أصبح وقتها رئيساً للوزراء.

كان ثمة امتعاض من التدخل التركي، والطراز المعماري للمبنى، الذي سيطلق عليه مسجد تيرانا الكبير، لكن كثيرين ينظرون إلى بنائه على أنَّه مجرد قوة أجنبية جديدة تهتم ببلدهم، بحسب المؤرخ الألباني أورون تار.

ويضيف: «هناك تنافس ديني، لديك هذه البلدان المختلفة، هذه الأنواع المختلفة من الهيئات الدينية التي تتلاقى جميعاً هنا».

نشاطات أخرى تقوم بها تركيا في الدول

وصلت الأموال التركية إلى ألبانيا أيضاً من خلال رئاسة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، التي توزع معظم المساعدات الإنمائية للبلاد ونفذت أكثر من 200 مشروع هناك، وضمن ذلك ترميم المساجد العثمانية، وفقاً لمكتب أردوغان.

تموّل الوكالة أيضاً عديداً من البرامج الأخرى في تيرانا، مثل تطوير الحدائق وبناء مساكن جامعية، ولا تزال ألبانيا إحدى أفقر الدول في أوروبا، وهي سعيدة بتخفيف العبء عن ميزانيتها.

يقول متحدث باسم «تيكا» إنَّ المنظمة ليست لديها مشروعات ترميم في ألبانيا، رغم من إدراجها لرقم بموقعها على الإنترنت، ولم يردَّ على طلبات تعليق أخرى.

وقال عمدة مدينة تيرانا في ألبانيا إيريون فيلياج، إنَّ رؤية المسجد الجديد بالقرب من الكاتدرائيات الكاثوليكية والأرثوذكسية تمنحه «متعة هائلة». وهو واثق أيضاً بأنَّ التنوع الإسلامي في ألبانيا سيبقى بمنأىً عن النفوذ التركي، بسبب الامتزاج الواسع في سنوات الإلحاد بين المجموعات الدينية التي كانت متمايزة سابقاً.

وقال إنَّ المذهب الحنفي السُّني لتركيا أكثر تسامحاً بكثير من ذلك الذي تنشره «بلدان أخرى»، في تلميح إلى النسخ الأكثر تشدداً من الإسلام التي تروج لها السعودية وغيرها بألبانيا بعد سقوط خوجة.

وتابع فيلياج: «بصفتي عمدة المدينة، فإنني سعيد لرؤية هذه المساعدة تأتي من تركيا أكثر من أي مكان آخر».

في ألمانيا الوضع مختلف، وهناك قلق حكومي من هذه النشاطات

وعكس الجهود التركية في تيرانا وأكرا وغيرها والتي تدفع قواها الناعمة في بلدان تضم قلة نسبية من المغتربين الأتراك، فإنَّ أنقرة تنشط أيضاً في بلدان يعيش فيها عدد كبير من الأتراك، مثل ألمانيا.

عندما بدأ العمال الأتراك الضيوف في الوصول خلال الستينيات، كان المشرعون هناك سعداء أيضاً بالحصول على مساعدة «ديانت».

بَنت المنظمة التركية المساجد، ووفرت الخدمات الاجتماعية، وعرقلت إلى حدٍ كبيرٍ أي خطر للتطرف.

لكن مع مرور الوقت، أصبحت ألمانيا موطناً لأكثر من 3 ملايين شخص من أصول تركية، وبدأت هواجس المشرعين حيال نفوذ أنقرة المستمر، خاصة مع الاستقطاب المتنامي في ظل حكم أردوغان.

تدير «ديانت» من خلال الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية (ديتيب)، وهو هيئة حكومية تركية أخرى، 900 مسجد من أصل 2400 مسجد في ألمانيا، وتصف نفسها بأنَّها محايدة سياسياً، لكنها كانت موضع خلافات متعددة.

عام 2017، حققت السلطات الألمانية مع عدد من الأئمة، للاشتباه في أنَّهم تجسسوا على أتباع فتح الله غولن، الداعية المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، الذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف محاولة الانقلاب التي حدثت عام 2016.

وقالت تقارير وقتها إنَّ وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية تفكر في وضع اتحاد «ديتيب» تحت المراقبة الرسمية.

وقال ماركوس كيربر، وهو أحد كبار موظفي الخدمة المدنية في وزارة الداخلية الألمانية، إنَّ الوقت قد حان لتقليص الروابط بين أنقرة والمجتمع الإسلامي في بلاده.

وأضاف أنَّ حزب العدالة والتنمية ينظر إلى الشتات التركي في أوروبا الغربية على أَّنه رصيد استراتيجي مهم، لكن ألمانيا تسعى إلى إعداد أئمة متعلمين ومساجد ممولة محلياً في المستقبل.

.

المصدر:عربي بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.