الكتاب: اكتشاف المسلمين للقارة الأمريكية قبل كريسِتوفر كولومبوسِ
المؤلف: فؤاد سزكين
ترجمه إلى العربية: فريد بن فغول
الناشر: معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، جامعة فرانكفورت ـ ألمانيا الاتحادية، 2014.
شغلت قضية إمكانية اكتشاف أمريكا قبل كولومبوس كثيراً من الأذهان في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا تزال هذه القضية ذات أهمية إلى اليوم.
في هذا السياق صدر كتاب “اكتشاف المسلمين للقارة الأمريكية قبل كريسِتوفر كولومبوسِ”، للباحث التركي الألماني، في التراث العلمي العربي الإسلامي، فؤاد سزكين، نقله إلى العربية، فريد بن فغول، وصدر عن معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، جامعة فرانكفورت ـ ألمانيا الاتحادية، 2014.
في الواقع بدأ المسلمون يتناولون مسألة الوصول إلى أمريكا في القرن العاشر الميلادي، وهناك سجلات تاريخية حول هذا الموضوع تشير إلى أن بعض المسلمين ذهبوا إلى هناك ثم عادوا، وبعضهم لم يستطع العودة، ولقد ذهب الناس مئات المرّات إلى أمريكا عن طريق الصدفة، وكان ذهاب المسلمين إلى هناك لهدف وحيد؛ هو أنهم لم يكونوا يعرفونّ المحيط الأطلسي، فكانوا يرغبون في الوصول إلى ما وراء المحيط العظيم؛ فخرجوا في العديد من الرحلات على أمل تحقيق هذه الغاية.
إن “أول خريطة للعالم حققها الجغرافيون العرب، والمسلمون بأمر من الخليفة المأمون، في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، قد ظهرت عليها المعمورة بشكل جزيرة. تصوير المحيطات له صفات خاصة: محيط يحيط باليابسة بأكملها (المسمى بالبحر المحيط)، إمكانية الإبحار فيه محدودة، ويحيط به محيط ثان يعتبر غير صالح للملاحة بسبب الظلام السائد فيه” (ص 31).
وفي هذا السياق يروي المؤلف “ما يراه البيروني (440 هـ/ 1048م) ـ وهو رأي قلما انتبه إليه الباحثون حتى الآن ـ من أن المعمورة يحيط بها محيط يفصل بين غربها وشرقها (في أقصى طرفيها)، وربما يفصل بينها، وبين جزيرة مسكونة تقع في وسطه” (ص 32).
“أول خريطة للعالم حققها الجغرافيون العرب، والمسلمون بأمر من الخليفة المأمون، في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، قد ظهرت عليها المعمورة بشكل جزيرة.
وينقل المؤلف عن العالم المسعودي (345 هـ/ 956م)، في كتابه المفقود “مرآة الزمان”، “أن بحارين من الأندلس قد خاطروا بحياتهم مراراً، وتكراراً، إذ قاموا برحلات عبر المحيط نحو الغرب. (ومن بين هؤلاء كان هناك رجل من قرطبة، يدعى حيخش، أبحر في المحيط، مع عدد من الشبان على متن بعض السفن، التي كان هيأها هو. وبعد فترة طويلة عادوا بغنائم كثيرة). وهناك قوم غيرهم لم يعودوا أبداً، وكان ذلك أمراً معروفاً في البلاد”. (ص 35).
وبحسب المؤلف فإن هذا الخبر الذي رواه المسعودي، يؤكد ما قدّمه الإدريسي (548 هـ/ 1154 م)، فقد روى الإدريسي خبراً مفصلاً عن محاولة فاشلة ـ ومشهورة في وقته على م يبدو ـ قام بها ثمانية أفراد من أسرة واحدة لعبور المحيط نحو الغرب، على متن سفينة صنعت لهذا الغرض” (ص 35). وجرت محاولات أخرى، “فقبيل سنة 712 هـ/ 1312م، يزعم أن السلطان محمداً أبا بكر أمر بإرسال أسطول بهدف الوصول إلى (الجانب الآخر من المحيط). وذكر ابن فضل الله العمرى، أن الأسطول قد أقلع، بعد الاستعدادات اللازمة، وتوجه إلى عرض البحر، فجرفه هناك تيار خطير فغرقت كل السفن سوى سفينة واحدة، بعد هذا الركب نفسه البحر على رأس أسطول بنفس الهدف، دون أن يتيسر له الرجوع” (ص 36).
حاول المؤلف البرهنة أن المسلمين هم أول من رَسَمَ خريطة شبة الجزيرة الأمريكية في القرن الخامس عشر. فيقول: “لم تحفظ لنا للأسف خرائط عربية أصلية من شأنها أن تساهم في ذلك، لكن لدينا بمقابل ذلك خرائط برتغالية ـ إسبانية، ثم نسخة من خريطة جاوية، تحتوي على آثار هامة. وأود أن أدرس أولاً خريطتين بشيء من التعمق: (خريطة أمريكا المفقودة لكولومبوس التي يرجع تاريخها إلى 1498 م)، في نسخة الأميرال العثماني، بيري رئيس، والترجمة البرتغالية لخريطة جاوية خاصة بالساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية. اكتشفت خريطة بيري رئيس، في عام 1929، في مكتبة طوب كابي سراي، ونشرها باول كاوله، في عام 1931” (ص 37).
حاول المؤلف البرهنة أن المسلمين هم أول من رَسَمَ خريطة شبة الجزيرة الأمريكية في القرن الخامس عشر
بعد قراءة الوصف المفصل، والمتماز للجزء المتعلق بأمريكا من خريطة بيري رئيس، تولد لدى المؤلف الانطباع بأن “بيري رئيس كان أول خرائطي لخص كل النتائج المعروفة، وحتى بعضها غير المعروف لنا حتى اليوم(…) كانت لهذه الخريطة للقارة الجديدة دقة مذهلة لا يمكن تصوّرها في الواقع(…) والأمر المدهش بصورة خاصة هي النتيجة التي نحصل عليها عندما نسقط خريطة بيري رئيس على الأطلس الحديث بواسطة الكمبيوتر” (ص 37 ـ 38). وأردف المؤلف إن ما نشاهده “هي دقة لا يعرف تاريخ الكوتوغرافيا مثلها في الحضارة الأوروبية قبل القرن الثامن عشر” (ص 40).
هناك تصور آخر للبرازيل، وهو أقل جودة، قد ظهر على خريطة ألبرتو كانتينو (Alberto Cantion)، بدون شبكة لدرجات الأطوال والعروض، يرجع تاريخه إلى سنة 1502، فاستنتج أرماندو كورتساو (Armando Cortesao)، وأفيلينو تيشيرا دا موتا (Avelion Teixeira da Mota)، الباحثان المتحمسان في تاريخ الكرتوغرافيا البرتغالية، من ذلك أن بعض المعلومات حول البرازيل لا بد أنها كانت موجودة قبل الرحلات الاستكشافية البرتغالية الأولى 1501″ (ص 41).
ولاستبانة الأمر المتعلق باحتمال اكتشاف أمريكا قبل كولومبس، يمكن الاستعانة بخريطة أخرى مهمة، هي من صنع المرتجل إلى أمريكا الإسباني، خوان دي لاكوزا (Juan de la Cosa)، الذي رافق كولومبوس كملاح في الرحلات الثلاث الأولى. والخريطة التي تحمل اسمه رسمت سنة 1500، وهي محفوظة في متحف البحرية في مدريد. وبحسب سزكين أن هذه الخريطة “مبنية على نموذج خريطة أخرى مزودة بشبكة لدرجات الأطوال، والعروض تعتمد على قياسات متقنة لخطوط الأطوال” (ص 42).
بالنسبة للخريطة الرابعة، يستشهد سزكين “بجزء من الأطلس الجاوي، والذي يظهر فيه الساحل البرازيلي الشرقي الممتد بين 6، 30ْ و27ْ من العرض الجنوبي، هذا الأطلس المتكون من 26 جزءًا سقط في أيدى البرتغاليين عند فتحهم لمدينة مالقا في سنة 1511” (ص 45). وأردف سزكن “إن النسخة البرتغالية المحفوظة من هذا الأطلس، تدل على أن صناعة الكرتوغرافيا في العالم الإسلامي قد وصلت إلى مستوى مرتفع بشكل مدهش قبل القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي” (ص 46).
ن تصوير المحيط الهندي، “هو نتيجة عمل جاد، ومتواصل تم في العالم الإسلامي على نطاق واسع من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي إلى نهاية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي
يقول سزكين إلى أن “تصوير ساحل أمريكا الجنوبية على الخريطة الجاوية مستقل تماماُ عن الخرائط الثلاثة المذكورة أعلاه، وأنه من الأحرى أن ما نحن بصدده، هي نسخة من تصوير هذه المنطقة كما طوروه البحاره العرب، والمسلمون في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي” (ص 47).
يلخص سزكين بإيجاز ملاحظاته عن الخرائط بالآتي: “إن ثلاثاً من الخرائط الأربع، التي دار عليها النقاش، وهي بيري رئيس، وخوان دي لا كوزا، وألبرتو كانتينو، بينهما قرابة كما يبدو، دون أن تكون الواحدة مستنسخة من الأخرى على ما يظهر، من الممكن أن تعود كلها إلى نموذج مشترك. والأمر الجوهري هنا هو أن رسم الساحل البرازيلي، عموماً قريب من الواقع بصورة مدهشة، سواء من خط الطول، أو العرض، وذلك على جميع الخرائط الثلاث، ولكن على الخريطتين الأوليين بصفة خاصة.
ويلاحظ أيضاً هذا العنصر المشترك في موقع بعض الجزر، الأمر الذي يؤدى إلى الاستنتاج بأن نماذج هذه الخرائط كانت في الأصل مزودة بشبكة درجات الأطوال، والعروض،التي رسمت بناءً على عدد كبير من الإحداثيات التي تم استخراجها بشكل موثوق. وكانت البيئة الثقافية العربية الإسلامية في ذلك الوقت البيئة الوحيدة التي كان يُتقن فيها قياس الطول بدقة كافية” (ص 48).
ويشير سزكين إلى أن “أرماندو كورتيساو، وتيشيرا أفيلينو دا موتا، وهما اثنان من رواد تاريخ الكرتوغرافيا، لا يخفيان أن البحارة بل، وعلماء الفلك البرتغاليين كانوا عاجزين تماماً عن قياس درجات الأطوال، أو حساب الاختلافات بين بعضهما البعض” (ص 50).
وينقل سزكين شهادة، المؤرخ بارتولومي دي لاس كأساس (Bartolome de las Casas)، الذي رافق كولومبوس في رحلته الثانية، الذي “يقول في كتابه (تاريخ الهند)، ما يلي: كان كولومبوس يحمل معه خريطة كان مرسوماً عليها بلاد الهند [شواطئ الأرض المكتشفة حديثاً، والتي يعتقد أنها الهند]، والجزر، وخاصة إسبانيولة، التي كانت تسمى زبيانجو [اليابان]” (ص 50).
ويشير سزكين إلى ما ورد في رسائل كولومبوس، من أن “السكان الأصليين لمنطقة البحر الكاريبي قصّوا على كولومبوس أن مراكب منسوبة إلى (الخان العظيم)، قد زارتهم مرة في الماضي” (ص 51).
إذا أقلع كولومبوس، ومعه خريطة للمحيط الأطلسي، كان قد رسم عليها سابقاً عدة جزر لأمريكا الوسطى.
يذهب سزكين إلى أن “(مضيق ماجلان) كان معروفاً في البيئة العربية الإسلامية، وأنه من هذه المنطقة وصلت الخرائط إلى أوروبا، في أوائل القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي” (ص 53). ويرى سزكين أن “بحارة البيئة الثقافية الإسلامية عرفوا جزءًا غير قليل من الأراضي الواقعة في البحر المحيط، التي رسموا خريطتها بشكل تقريبي على الأقل، هو النص المنقوش الموجود على خريطة العالم للراهب فرا ماورو (Fra Mauro)، 1459، التي تتضمن وصفاً موجزاً لرحلة بحرية عربية وقعت حوالي سنة 1420 للميلاد، جاءت سفينة، أو ما يسمى بالهندية (جنك)، سائرة من المحيط الهندي، ومتوجهة نحو (جزيرة الرجال والنساء) مروراً برأس دياب، وبين جزر خضراء في البحر المظلم [تشير عند العرب إلى المحيط الأطلسي] ، في اتجاه (الغروه Algarve = العربية ــ الغرب أي غرب الإندلس)، ولمدة أربعين يوماً لم تجد السفينة سوى الهواء والماء، فقطع البحارة ما يعادل في تقديرهم حوالي 2000 ميل مع رياح مواتية. وبعد سير 70 يوماً، عادت السفينة مرة أخيراً إلى رأس دياب” (ص 56).
إن تصوير المحيط الهندي، “هو نتيجة عمل جاد، ومتواصل تم في العالم الإسلامي على نطاق واسع من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي إلى نهاية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي” (ص 61 ـ 63).
في ختام كتابه، يقول المؤلف، “ثبت تاريخياً أنه منذ النصف الأول من القرن الرابع عشر، قام المسلمون، أو العرب، بمحاولات متكررة للإبحار نحو الغرب، وعبور البحر المحيط، منطلقين من ساحل البرتغال في بادئ الأمر، ثم من ساحل غرب إفريقيا (…)، [فــ] البحارة المسلمين لا محالة أنهم هم الذين وصلوا إلى القارة المحيطة الكبيرة منذ بداية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وأنهم لم يقتصروا على هذا، بل شرعوا حتى في رسم خريطتها (…)” (ص 68).
*كاتِب وباحِث فلسطيني