حققت هؤلاء الشابات نجاحات جلية ويتقدمن بخطوات واثقة وبفخر غير آبهات بنظرة المجتمع السلبية إليهن، طالما وصلنا إلى مرحلة الرضا عن الذات والثقة بقدراتهن.
وتقول شابات يعانين من إعاقات جسدية طفيفة إنهن قررن عدم التراجع أو الاستسلام أمام الإساءات المتكررة التي يتعرضن لها من قبل المجتمع، وماضيات في تحقيق أعلى درجات النجاج والاستقلال المادي.
لم تستطع خزامى (35 عاماً) أن تكمل دراستها في الجامعة بعد أن أنهت المرحلة الثانوية في مدينة الحسكة بشمالي سوريا، بسبب الحرب الدائرة منذ قرابة 10 سنوات، والنزوح المستمر من مكان لآخر. إلا أنها أثناء فترة إقامتها في مدينة حلب، كانت قد أنهت كافة المستويات المطلوبة لدراسة العزف على آلة الكمان في المعهد الموسيقي.
وبدأت الشابة التي تعاني من قصور بصري منذ صغرها، بتدريس الموسيقا لجميع الفئات العمرية في قرية والدتها بشمالي حلب، التي انتقلوا إليها بعد أن دمرت الحرب منزلهم في المدينة.
كما عملت مدرّسة للغة العربية والرياضيات إلى جانب الموسيقا لتلاميذ المرحلة الابتدائية بسبب نقص عدد المدرّسين.
وتعيش خزامى حياة طبيعية وترعى والديها المسنَّين، واستطاعت دائماً إيجاد عمل لها أينما حلت لئلا تحتاج لمساعدة الناس.
“توزيع المهام بين زوجتين”
كان ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عندما زارتها جارتها الجديدة في أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع، لكن من أجل طلب “غريب”.
تقول خزامى، “انفجرت بالضحك عندما رأيت وجه جارتي وهي تطلب يدي لزوجها بكل جدية، لكنني ذهبت لتحضير بعض القهوة لنجلس ونتسامر كعادتنا ظناً مني أنها تمزح”.
وتضيف: “لكن جارتي قاطعتني بهدوء وقالت لي، أنا لا أمزح، إن وافقت، سنزوركم مساءً أنا وزوجي للتحدث مع والديك وطلب يدك بشكل رسمي!”.
صُعقت خزامى من سؤال جارتها وموقفها، وصمتت لبرهة تنظر إليها بحيرة تتساءل في قرارة نفسها فيما لو كانت هذه المرأة تقصد ما تقول أم أن ذلك، مجرد مزحة وإن كانت ثقيلة للغاية.
ولكي تسيطر خزامى على ارتباكها، سايرتها وسألتها بابتسامة: “ولماذا يريدني زوجك وأنت أم أطفاله الأربعة ولا تعانين من أي مشكلة صحية، حتى أننا متقاربتان في العمر ” تقول خزامى.
كان ردُّ الجارة بمثابة صاعقة أخرى صدمت خزامى، عندما ردت عليها أن “سبب رغبة زوجها بامرأة ثانية هو فقط الجنس”.
لم تتفوه خزامى بكلمة، وتستمر الجارة في شرح موقفها بالقول: “لم أعد راغبة بالجنس بعد أن نزحنا عن منزلنا وخسرنا ممتلكاتنا، كما خسرتُ والدي وأحد إخوتي في الحرب، والهدف الوحيد الذي يحثني على الاستمرار في الحياة هو رعاية أطفالي الأربعة”.
“جحظت عيناي ثانية، وسط حالة الصمت، كان سؤالها صاعقاً ومحرجاً للغاية” تتذكر خزامى.
هل هو غياب الرادع الأخلاقي أم تساهل القضاء؟
ومن المعروف أن القوانين في معظم البلدان الإسلامية لا تمنع زواج الرجل بأكثر من امرأة. وخاصة في البلدان التي دمرتها الحروب وهجّرت الملايين، حيث بات الزواج معضلة يعاني منها الأسوياء الأصحاء قبل غيرهم.
و ارتفعت نسبة “العنوسة” بين الشباب والشابات في السنوات الأخيرة في معظم البلدان العربية، ووصلت نسبتها في سوريا، في العقد الأخير بحسب الإحصاءات الرسمية إلى 70 في المئة، بسبب الحرب وخوف الشباب العاطل عن العمل من تكوين أسرة ومواجهة المستقبل المجهول.
ولذلك، اقترح القاضي الشرعي الأول في دمشق، محمود معراوي، الزواج بثانية كأحد الحلول للقضاء على ظاهرة “العنوسة” في البلاد. وأشار إلى أن القضاء السوري “سيتساهل مع مسألة الزواج من امرأة ثانية وثالثة، مثل تساهل القضاء في مسألة التأكد والتدقيق من قدرة الزوج على تحمل الأعباء والمصاريف المالية لإعالة أسرتين أو ثلاثة كما كان لزاماً في السابق”.
وبالفعل أضحى بعض الرجال المتزوجين ولديهم أطفال أكثر جرأة في التفكير بالزواج من فتيات شريطة “عدم إنفاق المال عليهن” بمعنى لا وجود لالتزامات مالية أو ضمانات اجتماعية لحماية حق المرأة في حال فشل الزواج.
وحذّر خبراء الصحة العقلية من هكذا خطوة لما لها من تأثير اجتماعي سلبي في تفكك الأسرة وحرمان الأطفال من حنان الأب الذي قد ينقسم بين أسرتين.
“المشكلة ليست في إعاقتي بل في كوني أنثى”
تقول خزامى: “غالباً ما تطرق مسامعي عبارات الأسى والشفقة من الناس الذين ألتقي بهم بسبب نظاراتي الطبية السميكة”.
وتضيف: “سمعت ذات مرة إحدى النساء تقول لوالدتي، إن مشكلة خزامى ليست في ضعف بصرها ولكن في كونها أنثى”.
وتقول لمى الصفدي، وهي أخصائية في الإرشاد النفسي والأسري، إن المنظومة الاجتماعية عامة أجحفت بحق المرأة منذ عقود طويلة، وأهملت تفاصيل وجوانب إنسانية مهمة في المرأة وخاصة عند اختيارها كزوجة، ويندر أن يتزوج شاب لا يعاني من مشاكل جسدية من فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتنصح الصفدي هؤلاء الشابات بتوجيه طاقاتهن نحو تحقيق الذات والعمل على تطوير مهاراتهن للاستغناء عن مساعدة الآخرين. أما نظرة المجتمع فلن تتغير إلا بمرور الزمن وبمساهمة من جميع فئات ومجالات الحياة بحسب رأيها.
وتضيف: “الرسالة يجب أن توجه إلى المجتمع للبحث عن القيم الأخلاقية، فالشكل قابل للتجميل والتغيير، أما جوهر الإنسان فهو ما لا يتحمل أي عمليات تجميل”.
وثمة تجارب كثيرة لشابات يعانين من إعاقات جسدية لكنهن حققن المستحيل ونلن أعلى الدرجات العلمية.
لا تجد المجتمعات الشرقية في إعاقة الشاب الجسدية مشكلة كما يرونها في المرأة، وتبقى فرص العيش بكرامة متاحة أمامه، في الوقت الذي توصد فيه جميع الأبواب في وجه الفتاة التي قد تعاني من حالة مماثلة تماماً، عدا عن وصفها بأوصاف لها علاقة بإعاقتها الجسدية. وفي أفضل الأحوال، ينظر إليها المجتمع بعين الرأفة والشفقة وكأنها “مخلوق ناقص”.
وربما كانت هذه النظرة الشائعة في المجتمع هي التي شجعت جار خزامى، المتزوج والأب لأربعة أطفال، على طلب يدها ظناً منه أنها ضعيفة وستوافق عليه دون أي تردد.
“أحمل الدكتوراه ولا أحد يرغب الزواج مني”
تتعرض حسناء ذات الأربعين عاماً، والتي حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة باريس بفرنسا، باستمرار لمواقف محرجة سواء كان ذلك عن عمد أم لا بحسب قولها.
وتعيش حسناء وسط أصدقائها ممن يعتبرون نخبة المجتمع، من فنانين تشكيليين وشعراء وكتّاب وأطباء وأساتذة جامعيين وسياسيين وإعلاميين.
كما أن لديها علاقات وثيقة جداً مع محيطها، فهي امرأة نشطة ومستقلة تماماً.
وُلدت حسناء بخلع المفصل الوركي عند ولادتها. لذلك يراها المجتمع امرأة “عرجاء” ولا تستبعد حسناء أن “الرجال الذين يعتبرون أنفسهم “من النخبة” ينظرون إليها ذات النظرة”.
وتشعر حسناء أحياناً بأنها تلعب دور المرشدة النفسية أو الأم وترفع الروح المعنوية لأصدقائها عندما يواجهون مشاكل في حياتهم.
لكنها تقول: “لا أخفي أسفي على المجتمع وشعوري بالغصة عندما يتعلق الأمر باختيار أصدقائي وأقاربي لزوجاتهم المستقبليات”.
“يجاملونني بعبارات لطيفة مثل أنني جميلة وقوية ومثال يُقتدى به وإلى ما هنالك من صفات، لكنهم في الوقت نفسه، يستبعدونني ومثيلاتي من بين اختياراتهم كزوجةً مستقبلية”.
“هذا هو مجتمعنا، يرتدي عدة أقنعة، لم يطبقوا ما كسبوه من علم في المدارس والجامعات على أنفسهم، بل هي شهادات حصلوا عليها من أجل الرياء والوظيفة”.
وتحث حسناء الرجال على العمل لتحرير أنفسهم من تلك القيود البالية التي نشأوا عليها.
“أما عن نفسي، فلم يعد يهمني اهتمام هكذا نوع من الرجال بي من عدمه، بل أصبحت أكثر تركيزاً على تطوير ذاتي”.
درست حسناء في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية بجامعة دمشق، ثم حصلت على درجة الماجستير والدكتوراه في جامعة باريس بفرنسا، وعادت أدراجها إلى سوريا قناعة منها أن بلادها أكثر حاجة إليها من فرنسا.
وعملت إلى جانب تدريس اللغة الفرنسية، مع المنظمات الإنسانية ولجان الإدارة المحلية التي تهتم بذوي الاحتياجات الخاصة، وخاصة بعد اندلاع الحرب في سوريا وغياب دور المؤسسات الحكومية في العديد من المناطق.
إلا أن كل تلك الصفات الجيدة وفعاليتها في المجتمع لم تسعفها في أن تكون تلك المرأة التي قد يقع في حبها “شخص مكافىء لها”، مع شخصيتها وقدراتها وانجازاتها، فهي ومثيلاتها خارج دائرة “الزوجة المستقبلية المحتملة”.
وتقول بأسف: “قال لي أحد أصدقائي، وهو سياسي وإعلامي، في أحد لقاءاتنا، إنه يتمنى أن يجد فتاة أحلامه التي تتمتع بالاستقلالية المادية والخبرة والذكاء تماماً مثلي !!”.
وتضيف: “كان يظن أنه يثني علي، لكنه حقيقة أهانني وترك صورة سلبية لنفسه عندي، فهو لا يختلف عن أصحاب الأقنعة، يظهرون عكس ما يضمرون”.
“كأنني استطعت أن أسمع صوته الداخلي وهو يقول لي، لديك إعاقة، وأنت خارج دائرة الفتيات اللواتي يرغب بالزواج منهن”.
فهم مغلوط
لا ينظر جميع الناس إلى مفهوم الإعاقة على أنها “عيب جسدي”، بل هناك من يعرفها بطريقة مختلفة تماماً.
وتقول رويدة، وهي شابة تبلغ من العمر 37 عاماً: “إن الإعاقة الحقيقية بالنسبة لي هي تلك الصفات السيئة التي يجعل من الإنسان مزدوج المعايير وضيق الأفق أو عنصرياً أو كاذباً ومخادعاً أو متسلقاً ومتصيداً لأخطاء الآخرين، والمعاق هو من يستطيع مساعدة الآخرين لكنه ينأى بنفسه عن فعل ذلك، وغيرها الكثير من الصفات البشرية السلبية”.
ودرست رويدة الفلسفة لكنها لم تكمل تعليمها بسبب حالة والدتها الصحية، التي ماتت بعد عام، و لم تتوقف عن قراءة الكتب والمحاضرات والمقالات المنشورة على الانترنت حول جوانب مختلفة في الحياة.
أحبت رويدة شاباً يعاني من ضمور عضلي في قدميه، فهو لا يستطيع المشي أو الوقوف وغالباً يكون جالساً في كرسيه المتحرك.
كانت علاقتها بالشاب بلال بمثابة صدمة لمجتمعها وأسرتها، فقد كانت أكبر أخواتها وفي العشرينات من عمرها، وجميلة وذكية، وتقدم لخطبتها كثيرون تتمناهم أي فتاة.
وتقول رويدة عن زواجها بذلك الشاب: “عندما تعرفت على بلال قبل 15 عاماً، لم أراه معاقاً كما كان يراه الآخرون، بمن فيهم أفراد أسرتي الذين حاربوني بشدة لمنع زواجي منه، بل كنت أراه فتى أحلامي الوسيم، المتصالح مع ذاته، المتفائل رغم عدم قدرته على المشي، كان مثقفاً وبارعاً في رسم الابتسامة والسعادة على الوجوه، كان شاباً قوي الشخصية واثق من نفسه على عكس كثيرين من الشباب الأصحاء الذين التقيت بهم حينها، لم يفقد بلال قوته الداخلية في حب الحياة ومساعدة الآخرين عند الحاجة”.
مرت رويدة بظروف صعبة جداً، ووجدت نفسها وحيدة في مواجهة مصيرها، لذلك هددت أسرتها وحذرتهم من أنها ستختار الموت على الابتعاد عن بلال تتذكر رويدة.
الآن، وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على زواجها وإنجابها لطفلين، تقول رويدة: “هناك شيء أتمنى لو يتعلمه الآخرون وخاصة الرجال، من تجارب الآخرين في الحياة، وهي أن جوهر الإنسان ليس في شكله الظاهري وعضلاته، بل في تلك القوة الكامنة بداخله”.
وتستدرك قائلة: “لو لم يكن زوجي بلا قدمين وكان بدلاً من ذلك رجلاُ تقليدياً متخلفاً وجاهلاً بأمور الحياة أو ذو عضلات مفتوله لكنه مهزوز داخلياً ومتشائماً، لما أحببته على الإطلاق، فالحياة ومشقاتها لا تحتاج لرجل ضخم وعضلات بارزة”.
وتقوم رويدة بجميع الأعمال المنزلية والواجبات الاجتماعية داخل المنزل وخارجه، أما بلال، فلديه محل تجاري صغير لبيع السلع الغذائية والمواد الاستهلاكية.
وثمة الكثير من التجارب التي نسمع بها يومياً عن معاناة نساء من أزواجهن وشركاء حياتهن الذين حولوا حياتهن إلى جحيم، فالمشكلة تكمن في أفكار الناس وسلوكهم وليس في أجسادهم.
“لسنا أقل شأناً”
تقول خزامى للأسف يعتقد العديد من الرجال الذين تقدموا لخطبتي ( منهم كبار السن ومتزوجون وحتى رجال في عمر والدها) أنني ألهث وراء الزواج بأي شكل دون قيد أو شرط، لكنني قررت ألا أتنازل عن حقي في حب شخص قريب مني من حيث الأفكار ورؤيته للحياة ويبادلني الحب لشخصي كإنسان صاحب عقل وتفكير ولن أقبل بغير ذلك، ولست مخلوقاُ ناقصاً كما يظنون.
وتتفق مع هذا الرأي حسناء التي قررت عدم الزواج بقولها: “سيتعلم أفراد المجتمع مع مرور الزمن ويتقبل وجود نساء عازبات مستقلات وغير متزوجات بينهم، وسيتعلمون بمرور الزمن أيضاً أن السعادة لا تكمن في الحصول على زوج وأطفال بل في مدى رضا الشخص عن نفسه أياً كانت قراراته”.
.
المصدر/ BBC
مجتمع متناقض مع مفاهيمه وحتى المغلوطة منها
أتمنى التواصل مع الدكتورة حسناء إن أمكن