كما قيل في المثل العربي: “قطعت جهيزة قول كل خطيب”، للإشارة إلى من يقطع على الناس ما هم عليه بأمر هام يأتي به، فكذلك قطعت المحكمة العليا التركية كل التكهنات حول تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، بإلغائها قرارا صادرا في عام 1934 قضى بتحويل المسجد إلى متحف، ومن ثم مهدت الطريق إلى بدء المسلمين الصلاة في آيا صوفيا.
القضية أثارت عاصفة من الجدل واسع النطاق، ليس فقط لدى الغرب الذي يستاء من عودة آيا صوفيا إلى صفة مسجد صلى فيه المسلمون قرابة خمسمائة عام، وإنما أيضا لدى بعض العرب المسلمين الذين دفعهم الكيد السياسي لتركيا إلى تجريم تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، بعضهم يستخدم في ذلك ورقة الدين ويقول إنه عمل مخالف لتعاليم الإسلام التي تحترم دور عبادة “غير المسلمين” ويضرب مثالا على ذلك بأن الخليفة عمر بن الخطاب لم يحول كنيسة القيامة إلى مسجد عندما دخل القدس وأبقى كنائس الأقباط لم يتعرض لها، وبعضهم يستخدم ورقة التعدي على التراث، وبعضهم يضرب على وتر مراعاة مشاعر المسيحيين.
وآيا صوفيا في الأصل كان كاتدرائية بنيت في القرن السادس الميلادي، وبقيت كذلك إلى أن دخل السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453م، فحول تلك الكنيسة الأرثوذكسية إلى مسجد، وظل على وضعه كمسجد حتى عام 1934م، عندما تم تحويله إلى متحف، ثم اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة هذا المبنى الأثري المدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو إلى مسجد مرة أخرى، وأخذ الأمر مجراه في القضاء التركي.
ولأن قضية آيا صوفيا يرتبط فيها الحاضر بالماضي، فإننا نجد أنفسنا ملزمين بتقييم هذا الصنيع في الحقبة العثمانية الممثلة في عمل الفاتح، والحقبة التركية الحالية الممثلة في عمل أردوغان.
أولًا: آيا صوفيا ومحمد الفاتح
مع الأسف الشديد، بعد أن كان العالم العربي يعتبر تحويل آيا صوفيا إلى مسجد من الإنجازات العظيمة لمحمد الفاتح، صار بعض الخصوم اليوم يروجون أن هذا الفعل يمثل صورة للاستبداد الديني والسياسي للعثمانيين، مع أنه لم يعهد عن أي من علماء المسلمين منذ فتح القسطنطينية أنه انتقد هذا الصنيع أو اعتبره اضهادا ضد المسيحيين.
من الناحية الدينية والتكييف الفقهي، لم يخالف السلطان محمد الفاتح التشريع الإسلامي في هذا كما يزعم بعض مدعي العلم، لأن الفقهاء المحققين فرقوا بين البلاد التي تُفتح صلحًا، والبلاد التي تفتح عنوة بعد رفض أصحابها الصلح.
فالبلاد التي تفتح صلحا لا يصح أن تُحول دور العبادة لغير المسلمين فيها إلى مساجد، كما هو الحال عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب القدس صلحا، فلم يحول كنيسة القيامة ولا غيرها إلى مساجد، التزاما ببنود الصلح.
أما البلاد التي فتحت عنوة كما في فتح القسطنطينية، فإنه يكون للقائد الحرية في تحويل دور العبادة فيها إلى مساجد بحسب ما تقتضيه المصلحة، وبالنظر إلى سياق الأحداث في فتح القسطنطينية، فإن المصلحة قد اقتضت ذلك، حيث أن عدد سكان المدينة كان قليلا جدا بالنسبة إلى عدد الكنائس الموجودة بها، خاصة بعد أن هجرها كثير من السكان لضعف اقتصادها، في الوقت الذي كان عدد العثمانيين الفاتحين ضخما، ما يلزم معه وجود مساجد، وأضف إلى ذلك أن الفاتح قد حوّل بعض الكنائس إلى معابد لليهود وبعضا منها إلى الأرمن، لكي يقيموا شعائرهم فيها، حيث كانت حكرًا للأرثوذكس.
هذا من الناحية الفقهية، أما من المنظور السياسي العسكري، فإن هذه الخطوة كانت ضرورية، لأن آيا صوفيا كانت مركز القيادة الروحية للأرثوذكس في العالم، بمنزلة الفاتيكان للكاثوليك، فلو بقي ذلك المركز لأسهم في تعبئة وتجييش البيزنطيين من أجل استعادته، ومن ثم اقتضت الحسابات السياسية للقيادة العثمانية تحويل الكنيسة إلى مسجد بهدف إخماد أي جذوة بيزنطية محتملة.
وعلى صعيد الأعراف الدولية، لم يكن ما فعله محمد الفاتح من تحويل الكاتدرائية لمسجد بدعا من القول، الإسبان أنفسهم عندما أسقطوا الأندلس حولوا كل كنائسها لمساجد، حتى عندما دخلوا غرناطة بصلح وقّع عليه البابا يقضي بعدم التعرض للمساجد، ما إن دخلوها حتى حولوا كل مساجدها لكنائس، فلذا لم يناقض محمد الفاتح الأعراف الدولية، لكن مع الفارق أن الإسبان لم يفرقوا بين دخول البلاد صلحا أو عنوة، بل كانت هناك دوافع دينية صليبية لقمع المسلمين.
ولكن، ألا يوصف تحويل الكنيسة إلى مسجد بأنه اضطهاد ديني؟
الإجابة بشكل مباشر، إن هذا العمل كان بعيد كل البعد عن الاضطهاد الديني، والدليل على ذلك:
أولًا: لو كان اضطهادا دينيا لقام محمد الفاتح بتحويل كل كنائس القسطنطينية إلى مساجد، وهذا قطعا لم يحدث، حيث أن المؤرخين ذكروا أنه حول أربع كنائس، ومنهم من قال حول 17 كنيسة.
ثانيًا: لو كان اضطهاد دينيا، لما مكّن الفاتح الطوائف الأرمنية واليهودية من بعض الكنائس ليتعبدوا فيها، علما بأنهم جميعا يخالفونه في العقيدة، فما الفارق؟
ثالثا: لو كان اضطهادا دينيا، لحمل السلطان العثماني الشعب المسيحي على اعتناق الإسلام أو قتلهم على الديانة، أو منعهم من إقامة شعائرهم، بل العكس من ذلك، فإنه لما دخل آيا صوفيا وقد اجتمع فيها عدد كبير من المسيحيين وقساوستهم ورهبانهم، هدأ من روعهم، وطمأنهم على أنفسهم وعباداتهم، وكان بعض الرهبان يختبئون في سراديب الكنيسة، لما رأوا تسامح السلطان العثماني خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وهذا ما ذكره الباحث السعودي الدكتور عبد العزيز العمري في كتاب “الفتوح الإسلامية عبر العصور”.
وها هو الفرنسي “فولتير” فيلسوف عصر التنوير، يدلي بشهادته حول تسامح السلطان محمد الفاتح عندما دخل القسطنطينية، فيقول: “ومما يدل على أن السلطان محمد الفاتح كان عاقلا حليما، ترْكه للنصارى المقهورين الحرية الدينية في انتخاب البطريرك، ولما انتخبوه ثبته السلطان وسلّمه عصا البطاركة، وألبسه الخاتم، حتى صرح البطريرك وقتها: “إني خجِلٌ حقا مما لاقيته من التبجيل والحفاوة، الأمر الذي لم يعمله النصارى مع أسلافي”.
رابعًا: لو كان اضطهادا دينيا، لما راعى محمد الفاتح مشاعر المسيحيين حتى وهو يحول الكنيسة إلى مسجد، حيث أنه لم يغير معالمها البيزنطية، وأبقى على الصور الموجودة على الجدران، غير أنه غطاها بالجير حتى لا تظهر الصور تماشيا مع التعاليم الإسلامية، وإلى اليوم توجد هذه التصاوير على جدرانها، وليس هناك من تفسير لإبقائها سوى المحافظة على مشاعر المسيحيين، وهذا لا ينسجم مع مزاعم الاضطهاد الديني بأي حال.
ثانيًا: آيا صوفيا وأردوغان:
لا يخفى أن الغرب منزعج بسبب مساعي القيادة التركية الحالية لإعادة متحف آيا صوفيا إلى سابق عهده كمسجد، والسبب هو أن المسجد يعيد للأذهان الهزيمة البيزنطية أمام الدولة العثمانية التي توغلت في أوروبا، ومن ثم كانت المناشدات للحكومة التركية للتخلي عن هذه الفكرة، بزعم أنها تؤجج مشاعر الغضب لدى المسيحيين.
لكن الأكثر غرابة من ذلك، أن العرب المسلمين الذين يفترض فيهم أن يستبشروا ويفرحوا بخبر عودة هذا المسجد التاريخي، يقف بعضهم موقفا سيئا من هذا المشروع، ويكيل الاتهامات للقيادة التركية أنها “تستغل العاطفة الدينية لتحسين صورتها” في أي استحقاقات انتخابية قادمة، وللتغطية على “فشلها” في إدارة بعض الملفات كما يزعمون.
تجاهل هؤلاء جميعا، أن الحكومة التركية لا تحول كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وإنما تعيد متحف آيا صوفيا إلى مسجد كما كان طيلة ما يقرب من خمسة قرون، فالقيادة إذن لم تعتدِ على مشاعر المسيحيين، لأنها تعاملت مع متحف، ولم تتعامل مع كاتدرائية.
الأمر الثاني الذين تجاهلوه عن عمد، أن تحويل هذا الأثر التاريخي إلى مسجد، هو شأن تركي داخلي، وأي محاولة لإثارة المشاكل حول ذلك تعتبر من قبيل التعدي على السيادة التركية، والأمر متروك في النهاية للهيئة القضائية، فتركيا دولة مؤسسات، لا تتم فيها مثل هذا الإجراءات بقرار شخصي منفرد عن الطبيعة المؤسسية للجمهورية التركية، والشعب التركي وحده من له الحق في وقف هذا الإجراء عن طريق مؤسساته التي تنوب عنه، أو عن طريق صناديق الاستفتاءات إن وُجد ذلك.
وعلى من يتعاملون مع آيا صوفيا على أنها كنيسة بيزنطية، أن ينادوا بعودة كل المساجد التي تم تحويلها إلى كنائس ومعابد، فلينادوا إذن بإعادة مسجد قصر الحمراء في مدريد بعد أن تحول إلى كنيسة سانتا ماريا.
ولينادوا بإعادة مسجد المردوم في طليطلة بعد أن تحول إلى كنيسة نور المسيح، ثم إلى مزار سياحي.
ولينادوا بإعادة مسجد إشبيلية الذي تحول إلى كنيسة ماريا، ثم إلى كاتدرائية، وإلا فإن كل شراستهم بالاعتراض على هذا القرار التركي، ما هو إلا محض كيد سياسي، لا أكثر.
.
المصدر/ A.A