هولندا .. كنت متوجها خارج مدينة روتردام، ومشيت في شوارعها المرصوفة بالطوب الأحمر ومررت بمنازلها المائلة وقنواتها الصافية، والمطاعم السورينامية التي تفوح منها رائحة الطعام الزكية، والمتاجر الكبرى على مشارف المدينة، حتى وصلت إلى المرفأ.
وهناك لمحت قطيعا من الأبقار في مزرعة قريبة.
وبدت هذه المزرعة “العائمة” الراسية قبالة الساحل في المياه العكرة للوهلة الأولى أشبه بحظيرة المواشي، وذكرني سطحها
المنحني بأمواج البحر. وتتضمن المزرعة معبرا صغيرا لتسير فيه الأبقار إلى الرصيف حيث يوجد شريط من الكلأ.
وكان نسيم البحر محملا برائحة السماد. ورأيت على مرمى البصر، الرافعات تحمل البضائع إلى السفن، وكانت سفن الشحن تجوب
البحر محملة بالبتروكيماويات. وقد بدا قطيع الأبقار دخيلا على هذا المشهد الصناعي.
ورغم ذلك، فإن هذه المزرعة العائمة كانت بمثابة طوق نجاة لقطاع الألبان في هذا العالم الذي يموج بالتغيرات، إذ صممت
المزرعة لمواجهة تحديات ارتفاع منسوب البحر والحد من نصيب قطاع الألبان من إجمالي انبعاثات الغازات المسببة
للاحتباس الحراري، ولهذا جهزت المزرعة بألواح الطاقة الشمسية وصمم سطحها لتجميع مياه الأمطار وتخزينها لتوفير
مياه الشرب للأبقار.
وتسهم الحيوانات نفسها في إعادة تدوير النفايات، إذ تتغذى على مخلفات قص العشب من المتنزهات وملاعب الغولف،
وقشور البطاطس من مصانع إعداد البطاطس في روتردام، التي تمد الشعب الهولندي بالبطاطس المقلية التي يعشقون
تناولها في أي وقت على مدار اليوم، وحبذا لو كانت مغموسة في صلصة المايونيز.
وتقول مينك فان وينغردن، الشريكة في المشروع، إن أبقارنا تتغذى على مخلفات نباتية من المدينة لتنتج حليبا صحيا وطازجا.
ومنذ افتتاحها العام الماضي، استقطبت المزرعة العائمة الكثير من الزوار الذين جاؤوا من باب حب الاستطلاع لمشاهدة هذا
المشروع الذي يعد الأول من نوعه في العالم. ويحافظ المشروع على تقليدين راسخين يتوارثهما الهولنديون منذ سنوات طويلة،
وهما اقتطاع أراض من المحيط، وتربية الأبقار لإنتاج الألبان. وأسهم هذان التقليدان في تشكيل ملامح هولندا، التي تعد معظم
أراضيها مستصلحة من البحر، ويقال إن شغف الهولنديين بمنتجات الألبان ساعد على نمو أجسامهم بشكل لافت.
ويعد الشعب الهولندي أطول الشعوب قامة في العالم، إلى حد أنه يطلق على هولندا اسم أرض العمالقة. ويبلغ متوسط
الطول في هولندا 182.5 سنتيمترات بين الرجال و168.7 سنتميرات بين النساء. في حين أن متوسط الطول في الولايات المتحدة
يبلغ 177.1 سنتيمترا بين الرجال و163.5 سنتيمرات بين النساء.
إقرأ إيضا : هولندا تنهي وجودها على الخريطة رسميا
لكن الهولنديين لم يكونوا طوال القامة في القرون الماضية، إذ استعرضت دراسة أجرتها الجمعية الملكية بلندن، السجلات
العسكرية الهولندية، وخلصت إلى أن الرجال في هولندا في منتصف القرن التاسع عشر كانوا من أقصر الشعوب قامة في العالم.
وتقول لويز باريت، الأستاذة بجامعة ليثبريدج بكندا، وشاركت في هذه الدراسة، إن متوسط طول الجنود الهولنديين في
عام 1860، كان يبلغ نحو 165 سنتيمترا، وكان الرجال في الولايات المتحدة أطول منهم قامة بنحو خمسة سنتيمترات.
ولهذا كان الأمريكيون أطول الشعوب قامة في العالم.
واللافت أن متوسط الطول ارتفع بين الرجال الهولنديين بنحو 20 سنتيمترا في غضون 160 عاما فقط، وأصبحوا أطول قامة من
نظرائهم الأمريكيين الذين لم يرتفع متوسط الطول بينهم إلا بنحو ستة سنتميرات.
وترى باريت، أن هذه الزيادة السريعة في الطول لا يمكن عزوها للعوامل الوراثية فقط، رغم أنها ترى أن الانتقاء الطبيعي قد لعب
دورا فيها. إذ لاحظت الدراسة أن الرجال طوال القامة والنساء متوسطات القامة، أنجبوا أكبر عدد من الأطفال في هولندا. في
حين أن النساء قصيرات القامة والرجال متوسطي القامة أنجبوا أكبر عدد من الأطفال في الولايات المتحدة.
وترى باريت أن العوامل البيئية أسهمت أيضا في زيادة طول الهولنديين، مشيرة إلى أن هولندا تمتلك واحدا من أفضل نظم
الرعاية الصحية والاجتماعية في العالم، وتنخفض فيها معدلات التفاوت في الدخول.
وتقول باريت إن جميع الفرص مهيأة في هولندا لإنجاب أطفال أصحاء وتنشئتهم في بيئة لا تعوق نموهم بأي شكل من الأشكال.
فإن إطلاق استجابة مناعية ضد مسببات الأمراض، على سبيل المثال، يهدر الطاقة التي يحتاجها الجسم للنمو.
وتنبه باريت أيضا إلى النظام الغذائي الهولندي، إذ يستهلك الهولنديون كميات ضخمة من منتجات الألبان. وربطت دراسة بين
زيادة استهلاك الحليب وبين طول القامة. وتقول باريت إن الكالسيوم يساهم في بناء العظام ويعتمد نمو الجسم على تناول كميات
كافية من الكالسيوم.
إقرأ إيضا : هولندا تتخلى عن اسمها في 2020
وقد يعود عشق الهولنديين للألبان إلى طبيعة البلاد الجغرافية. إذ تخوض هولندا، التي شيدت على مستنقعات كانت في الماضي
موطنا للطيور البحرية، منذ قرون معارك لحماية أراضيها من الفيضانات، فبنت طواحين الهواء لتصريف المياه من أراضيها
المنخفضة، وشقت القنوات وشيدت السدود والحواجز.
وأقيمت على الأراض المستصلحة من البحر مشروعات عملاقة للتحكم في أمواج البحار، حتى إنه يقال إن الهولنديين خلقوا
أراضيهم من العدم.
ويعد مشروع خليج “زويدر زي”، أكبر مشروع لتوسيع الأراضي الهولندية. إذ استصلحت هولندا في هذا المشروع الهندسي الضخم
أراض من البحر مساحتها 1,620 كيلومترا مربعا. وبدأ إنشاء شبكة السدود والحواجز التي تحيط بهذه الأراضي المستصلحة في
عام 1920 ولم يكتمل المشروع إلا في عام 1997.
ويقول ميويس هيتينغا، خبير متقاعد في مجال صناعة الجبن من مدينة فوردن التي تقع على بعد 40 كيلومترا من روتردام فيما
يسمى بوادي الجبن، إن درجة حموضة الأراضي المستصلحة عالية ولا تصلح لزراعة الخضروات والحبوب، لكنها مناسبة لزراعة العشب.
وبعد تجفيف هذه الأراضي التي كانت مغمورة بمياه البحر، حولها المزارعون الهولنديون إلى مراع خضراء لتربية الأبقار. ويقول
هيتينغا، الذي يدير معملا لصناعة الجبن في فيردن، إن الكلأ كان وفيرا في مقاطعة فريزلاند الشمالية، موطن البقر الفريزيان
الذي ينتشر الآن في المملكة المتحدة وأيرلندا.
إقرأ إيضا : ارتفاع حاد في طلبات “القتل الرحيم” في هولندا
وازدهرت صناعة الألبان في الأراضي المستصلحة وزاد استهلاك منتجات الألبان في هولندا، ومن ثم ازداد الهولنديون طولا.
ولا يزال الشعب الهولندي يعد من أكثر شعوب العالم استهلاكا للحليب.
ويحول الهولنديون الفائض من الحليب إلى جبن، مثل “غودا” و”إيدام”، التي تباع في شكل أقراص ضخمة مغطاة بالشمع،
وقد استمدت اسمها من المدن الهولندية التي صنعت فيها.
وقد تستمتع بمشاهدة مظاهر عشق الهولنديين لمنتجات الألبان في مدن غودا وإيدام وفوردن وألكمار.
وتحتضن هذه المدن الأربع أشهر أسواق الجبن في هولندا، حيث ينخرط التجار والمزارعون، بحكم العادة، في مساومات
حامية للتفاوض على سعر أقراص الجبن حتى يتوصلون إلى اتفاق. وفي فوردن، يضع المزارعون الجبن على عربات قديمة الطراز
ويرتدون القباقيب الخشبية التي تجعلهم يبدون أطول قامة مما هم عليه.
ولعل شخصا مثلي لا يتعدى طوله 176 سنتيمترا قد يكون أكثر احتياجا إلى انتعال شيء يطيل قامته بقدر بوصتين أو أكثر. فقد كنت
أشعر أنني قصير وسط الهولنديين، ولا أدري إن كانت فان فينغردن تقصد شيئا عندما أعطتني زجاجة اللبن في المزرعة العائمة.
صحيح أنني ربما أكون قد توقفت الآن عن النمو، لكني قبلت عرضها وشربت الزجاجة دفعة واحدة.
.
المصدر/ BBC