يعكس شهر رمضان المبارك في تركيا حالة التمازج الكبير بين الثقافة المعاصرة والإرث العثماني السابق، فأغلب الممارسات والتقاليد الرمضانية السائدة في تركيا تعود أصولها إلى العهد العثماني، خاصة تلك المرتبطة بالبعد الديني.
سابق الشاب نعمان الزمن ليحضر عصيرا من نكهات العنب والزنجبيل والقرنفل والكرز والتوت يروي به ظمأ مئات الصائمين الذين يبدؤون إفطارهم بتناول المشروب الرمضاني بوصفته المعروفة منذ مئات السنين في تركيا.
ويقول الشاب الذي يعمل في محل لبيع العصير بمنطقة الفاتح في مدينة إسطنبول إن الــ”رمزان شربتي” أو شراب رمضان يقتنى في كل بيت تركي خلال شهر الصيام، خاصة بعد أن أصبح يعبأ بالطرق العصرية ويباع في المحال الحديثة والمجمعات التجارية والمولات.
ولا يعرف نعمان التاريخ الذي تعود إليه أصول المشروب الرمضاني على وجه الدقة، لكنه يؤكد للجزيرة نت أن الأهالي يتحدثون عنه كمشروب دأبوا على تناوله منذ العهد العثماني لفعاليته في مقاومة العطش ولأنه مشروب خفيف يمكن للصائم بدء الإفطار بشربه دون أن يحس بــ”الشبع المبكر”.
ومثل انتشار الشراب الرمضاني لا يكاد رغيف “البيدا” يختفي من واجهات المخابز والأفران ومحال الحلويات التي تعرضه جنبا إلى جنب مع الفطائر وحلويات رمضان التاريخية الشهيرة.
وتقول إحدى صانعات الرغيف إن البيدا بأشكالها وأحجامها المتعددة هي أيضا من الخبز الذي انتقل للأتراك من عهد العثمانيين.
عادات موروثة
ويعكس شهر رمضان المبارك في تركيا حالة التمازج الكبير بين الثقافة المعاصرة والإرث العثماني السابق، فأغلب الممارسات والتقاليد الرمضانية السائدة في تركيا تعود أصولها إلى العهد العثماني، خاصة تلك المرتبطة بالبعد الديني.
فما زال “المسحراتي” يشق عتمة الليل بصوت طبله ليوقظ النائمين لتناول السحور في كثير من المدن والأحياء التركية التي يمسك الناس فيها عن تناول الطعام والشراب مبكرا عند الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل.
والمسحراتي عمل موروث من الزمن العثماني لكنه لا يزال يفرض نفسه على الحياة الرمضانية التركية رغم انتشار الأدوات التقنية من الساعات المنبهة وأجهزة الاتصال المزودة بأجراس المنبه التي توقظ النائمين.
أما مدفع رمضان العائد للعهد العثماني والذي اختفى تماما من “مساءات” الدولة الحديثة فقد أعادته التقاليد الرمزية للحياة في ساحة جامع السلطان أحمد بمدينة إسطنبول، حيث يطلق قذيفته كل يوم معلنا موعد الإفطار بالتزامن مع أذان المغرب.
في ساحة الجامع التاريخي ذاته يتجمع الأتراك كل ليلة لتناول طعام الإفطار الذي تعده بلدية إسطنبول الكبرى وتوزعه مجانا كما كان الحال في الزمن العثماني، وما هي إلا ساعات من بعد صلاة التراويح حتى يعود الناس لتناول السحور جماعيا، والاستماع للمواعظ والدروس في ساحة آية صوفيا المجاورة.
تراويح وزيارات
وتنشر سلطة الشؤون الدينية منذ بداية الشهر قوائم بأسماء المساجد التي تصلى فيها التراويح بالركعات العشرين في كل محافظة من محافظات البلد الذي يتنامى فيه الشعور الديني المرتبط بالقيم الوطنية على السواء.
وفي رمضان يتدفق أكثر من مليون تركي من مختلف الولايات على جامع “الخرقة الشريفة” بإسطنبول لرؤية “البردة” التي يقال إن النبي محمد عليه السلام كان يرتديها ليلة الإسراء والمعراج.
ووفقا للدارج في تركيا منذ العهد العثماني، فإن النبي عليه السلام أهدى البردة للتابعي أويس القرني، وهو من اليمن، ثم انتقلت بعد استشهاده في العراق لشقيقه الذي أخذها باعتبارها أمانة إلى إسطنبول لتبقى في عهدة عائلته حتى الجيل الـ59 الذي يرعى تلك الأمانة اليوم.
ومنذ بدء الشهر الفضيل ليلة السبت الماضي تنار مآذن الجوامع وتوصل بعضها ببعض بلافتات ضوئية تحمل عبارات دينية أو ترحيبية وتبقى منارة حتى أذان الفجر، كما يزين كثير من الناس شرفات منازلهم بالأهلة والنجوم الضوئية التي تلمع طول ليالي الشهر الكريم.
لكن كل ذلك لا يحجب رسوخ التقاليد العلمانية في الدولة التي تدين الأغلبية العظمى من سكانها بالإسلام وصاحبة أعلى نسبة من السنة من بين مثيلاتها في العالم الإسلامي، ففي شوارع مدينة كإسطنبول التي تحتفل هذه الأيام بذكرى الفتح الإسلامي على يد السلطان العثماني محمد الفاتح تفتح كثير من المطاعم أبوابها لتقدم الطعام والشراب في وضح النهار للزبائن المسلمين والسياح على حد سواء.