هل يمكنك تجويع بلد لديه أعلى مستوى دخل للفرد على مستوى العالم؟
تقرير لمجلة التايمز البريطانية عرض مظاهر الحياة في قطر، بعد أن فرضت عليها السعودية والإمارات والبحرين الحصار، وكيف سخر القطريون من محاولة تجويعهم، وما المجالات التي شعروا فيها بتأثير الحصار فعلاً؟
يقول التقرير “يكمن الشغل الشاغل بين الحشود الليلية في سوق البضائع المُقلَّدة بالدوحة في تحديد المقهى الذي سيتجمعون به بعد تناول الإفطار في شهر رمضان، والمركز التجاري المُكيَّف الذي سيتوجهون إليه للتسوق وشراء بضائع العلامات التجارية الشهيرة”.
بينما تُسمع أصوات فرقعاتٍ متقطعة، ولكنَّها ليست أصوات إطلاق نار، بل هدير مُحرِّكات سيارات اللامبورغيني والمازيراتي على الطُّرق السريعة وفقاً لتقرير التايمز.
يقول محمد علي عثمان، وهو مدرس جغرافيا لديه شاحنةٌ خفيفة من فئة جي إم سي سييرا، لونها أحمر لامع كالطماطم، وجديدة لدرجة أنَّ مقاعدها لا تزال مُغلَّفةً بالأغطية البلاستيكية للصحيفة البريطانية: “نحن مرتاحون جداً”.
وتتمثل العلامة الظاهرية الوحيدة على وجود شيءٍ غريبٍ في قطر، والتي يحظى الفرد فيها بأعلى متوسط دخل في العالم، في الأرفف الفارغة في قسم الدجاج بمتجر سبينيس، والحليب التركي الذي حلَّ محل المنتجات السعودية الاعتيادية.
تقع قطر تحت الحصار، حسب التايمز، إذ تتعرض الدولة قطر، التي تُعد شبه جزيرةٍ صغيرة، حالياً لحملة عزل من جيرانها في حصارٍ بري وجوي وبحري مُفاجئ فُرض عليها فجر الإثنين الماضي، 5 يونيو/حزيران 2017.
وأشار تقرير مصور لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” إلى أنه رغم مرور نحو أسبوع على المقاطعة، فإن الزائر إلى أسواق الدوحة لا يكاد يلحظ أي تأثير لها على وفرة البضائع وأسعارها.
في المقابل، أعرب بعض المستثمرين والتجار عن مخاوفهم من أن استمرار “الحصار” لوقت أطول ستكون له نتائج سلبية على الاقتصاد القطري.
وأُمهِل القطريون 14 يوماً لمغادرة السعودية والبحرين والإمارات، وأُمِر رعايا هذه الدول بالخروج من قطر، حتى في ظل تعليق الرحلات الجوية، وحظر استخدام المجال الجوي، الذي سيجعل رحلاتهم غير مباشرة. وكانت هذه الخطوة قد صدمت المواطنين المحليين، إذ قال حامد آل الماضي، وهو مديرٌ مالي: “إننا عائلةٌ واحدة، ونحمل ثقافةً واحدة، وديناً واحداً. لا يعامل أحدٌ جاره معاملةً سيئةً كهذه”.
ومع أنَّ أخبار الحصار كانت قد دفعت المواطنين في البداية إلى التهافت على الشراء خوفاً من نفاد المنتجات الغذائية، سرعان ما تحوَّلت فكرة محاولة تجويع بلدٍ يحظى الفرد فيه بأعلى متوسط دخلٍ في العالم، يبلغ 101800 جنيه إسترليني (حوالي 129700 دولار) إلى هراء.
يُذكر أنَّ دولة قطر الغنية بالنفط والغاز لديها صندوق ثروة سيادية قيمته 262 مليار دولار، وتمتلك نادي باريس سان جيرمان لكرة القدم، وتمتلك في لندن أكثر مما تمتلكه الملكة، بما في ذلك برج شارد، ومتجر هارودز، وجزء من بنك باركليز وبورصة لندن.
ويُعَدُّ مسكن حاكم قطر الحالي، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في لندن أغلى منزلٍ في بريطانيا.
البورش والكافيار وحصار الدوحة
وانتشر هاشتاغ بعنوان “الدوحة تحت الحصار” بسرعةٍ على موقع تويتر، وأظهر أحد المنشورات الخاصة بهذا الهاشتاغ طابوراً من سيارات بورش 911 تحت عنوان “حافلات الإجلاء”، وآخر يحمل عبارة “خزنوا الكافيار في الثلاجات الصغيرة. السعوديون قادمون”.
ورغم هذه النكات، تُعد هذه الأزمة هي أسوأ أزمات الخليج التي أفزعت القوى الغربية منذ غزو صدام حسين لدولة الكويت. ففي منطقةٍ محاطة بصراعٍ عربيٍّ إسرائيلي مشتعل منذ أمدٍ بعيد، وفي ظلِّ تعمُّق الشقاقات بين السُّنَّة والشيعة، وحيث توجد أربع حروب جارية بالفعل، آخر ما يحتاج إليه الشرق الأوسط هو اندلاع معركةٍ بين دولٍ سُنِّية متجاورة، تُطلق على نفسها “دولاً شقيقة”.
وقال دبلوماسيٌ غربي: “هذا أفضل مثالٍ على الأشياء التي لا يرغب أحدٌ في حدوثها”. إذ تُعد قطر دولةً مُهمة لأكبر حملات دول الغرب العسكرية المستمرة في المنطقة، وتستضيف قاعدة العديد الجوية، حيث يتمركز 10 آلافٍ من القوات الأميركية، بالإضافة إلى 100 فردٍ من سلاح الجو الملكي البريطاني، وأكثر من 100 طائرةٍ حربية وطائرات بدون طيار.
وهناك طائراتٌ تنطلق يومياً من قاعدة العديد لتوجيه ضرباتٍ جوية في أفغانستان، والمساعدة في طرد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من العراق وسوريا.
ومع ذلك، تحظى هذه الخطوة بمباركةٍ واضحة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي زار المملكة العربية السعودية منذ 3 أسابيع، وشارك الملك سلمان في رقصةٍ بالسيوف للرجال فقط.
ترامب السبب
وكان ترامب قد نشر تغريداتٍ توضح استحسانه هذه الخطوة قائلاً: “من الجيد جداً أنَّ زيارتي للمملكة العربية السعودية للقاء الملك السعودي وقادة 50 دولة بدأت تؤتي ثمارها. فقد أكَّدوا أنَّهم سيتخذون موقفاً متشدداً من تمويل الإرهاب، وجميع الإشارات كانت تشير إلى قطر. ولعل هذه تكون بداية نهاية رعب الإرهاب”.
واعترف عمر سيف غباش، السفير الإماراتي لدى موسكو، والذي كان يتحدث باسم حملة عزل قطر، بأنَّ تغيير القيادة في أميركا ربما أعطى “الضوء الأخضر” لهذه الخطوة. ولكنه أصرَّ على أنَّ هذه الخطوة نتاج “فترة طويلة من الأزمات”.
وقال غُباش: “بقينا صامتين لمدة 20 عاماً، وتحدثنا خلف الأبواب المُغلقة، وبلهجةٍ حادة في بعض الأحيان. إننا في أمسِّ الحاجة إلى كشف ذلك أمام الرأي العام. يتعلق هذا الأمر بمحاولة تحديد حدود الأشياء المسموح بها في ديننا. نحن نطلب من القطريين الاختيار”.
وما يقصده غباش هو كيف تسعى دولةٌ يعيش بها 300 ألف شخصٍ فقط للعب دورٍ عالمي باستخدام ثروتها الهائلة للعمل مع جميع الأطراف.
وبغض النظر عن استضافة قطر القاعدة الجوية الأميركية، فقد أنشأت قناة الجزيرة، وهي أول محطةٍ تلفزيونية عربية تُسلِّط الضوء على المنطقة من الداخل.
وتؤكد قطر أنَّها تتعاون تعاوناً وثيقاً مع وكالاتٍ غربية لمحاولة إيقاف تمويل الإرهاب، إذ قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وزير الخارجية القطري: “لم نُموِّل أي مُنظِّمةٍ إرهابية”.
والرياض التي تتهم الآخرين بتمويل الجماعات الإرهابية، كان أسامة بن لادن و15 شخصاً من مُنفِّذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سعوديين، بالإضافة إلى انتشار مدارس تتلقى تمويلاً سعودياً وتنشر الوهابية عبر باكستان وبعض الدول الأخرى، مما جعل السعودية عُرضةً لاتهامها بالنفاق، حسب التايمز.
التحدي
وبعد الصدمة الأولية التي سببها الحصار، تحوَّلت قطر إلى المواجهة والتحدي. فأُعيد ملء أرفف المحلات التجارية بالبضائع، باستثناء الدجاج السعودي، بينما بثَّت وزارة التجارة مقطع فيديو يُظهر الأرفف وهي مملوءة بالبضائع. وقال محمد بن عبد الرحمن: “يمكننا العيش للأبد بهذا المستوى نفسه”، مشيراً إلى أنَّ 16% فقط من واردات قطر الغذائية كانت تأتي من معبر الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية.
إلا أطفالي
ومع ذلك، فإن ضريبة ذلك الحصار بالنسبة لآلاف العالقين على الجانب الآخر من الحدود، سواءٌ للعمل، أو الدراسة، أو الزواج بين جنسيات مختلفة، كانت باهظة.
وقالت وفاء اليزيدي، مديرة أحد المستشفيات التابعة للدولة في الدوحة، والتي ربَّت ابنها وبنتيها وحدها منذ أن طُلِّقت من زوجها البحريني: “السعوديون يريدون التحكم فينا”. ويكتسب الأطفال في الخليج جنسيتهم عن أبيهم، ما يعني أنَّهم يواجهون الطرد.
وقالت والدمع يتساقط على وجهها: “بإمكانهم منع طعامنا، ومياهنا، لكن لا يمكنهم أخذ أطفالنا”. وأضافت: “إنَّهم يفعلون ذلك في شهر رمضان الكريم. لن ننسى ذلك حتى وإن حُسِمَ الأمر”.
وتصاعَدَ الموقف وضمَّ عدداً أكبر من البلدان، حتى مع محاولات التوسُّط من قِبَلِ الكويت وألمانيا وروسيا.
وتستخدم المملكة السعودية نفوذها المالي من أجل إقحام دولٍ إسلاميةٍ أخرى لفعلِ الشيء نفسه. وصارت النيجر بالأمس آخر الدول الإفريقية التي سحبت سفراءها من قطر. وصعَّد ترامب الضغوط، مستمراً في اتهام قطر بتمويل الإرهاب، حتى في أثناء محاولة وزير خارجيته ريكس تيلرسون التوسُّط لحل الأزمة.
في المقابل، عرضت إيران توفير الإمدادات للقطريين، متباهيةً بسنواتٍ من الخبرة في الالتفاف حول الحصار الدولي. وأرسلت تركيا قواتٍ تتألَّف من 3 آلاف جندي، بعدما شعرت بالقلقِ من تقاريرَ أفادت بأن السعودية تُخطِّط لإرسال دبابات عبر الحدود لاحتلال قطر.
وفي الإمارات، من المُفتَرَض أن يُعاقب أيُّ شخصٍ يُظهر تعاطفه مع قطر لمدة 15 عاماً، بينما أصدرت السعودية قراراً يُلزم جميع الفنادق بإيقاف تشغيل قناة الجزيرة.
السبب الحقيقي لكل هذا
ويعتقد البعض أنَّ الأمر كله يتمحوَر حول هذه القناة التلفزيونية. وقال رجل أعمال محلي يُدعى حامد العطية: “يريدون منَّا أن نوقف عرض الجزيرة وكأس العالم معاً”.
وأقرَّ غباش قائلاً بأنَّ “كل هذا بدأ بتمويل قناة الجزيرة، وكيف عملت في المنطقة باسم حرية التعبير”.
وبصرف النظر عن السبب، فإنَّهما قد وقعا في حسبةٍ خاطئةٍ كبيرة، وفقًا للشيخ صلاح الدين الزين، الأستاذ الجامعي السوداني الذي يدير مركز الجزيرة للدراسات، وهو مركزٌ بحثي مرتبط بالمحطة التلفزيونية. وقال: “إنَّهم يعتقدون أن قطر ستُغمِض عينيها وتستسلم في اليوم التالي، لكنَّهم أساؤوا تقدير قدرتها على الصمود”.
ومن غير الواضح بعد كيف سينتهي هذا الصراع على كلا الجانبين. وكان تمثالٌ عملاقٌ لحيوان المها، جالب الحظ في قطر، قد نُصِبَ مؤخراً على الكورنيش، ذلك المتنزه الذي يُطِل على البحر، حيث تتجوَّل العائلات عند الغسق، وعليه ساعةٌ للعدِّ التنازلي حتى موعد انطلاق كأس العالم لكرة القدم.
هاف بوست