إن تاريخ 17 ديسمبر هو يوم انطلاق الشرارة الأولى لتطورات اجتماعية كبرى، والتي سرعان ما انتشرت في عموم العالم الإسلامي قبل عشر سنوات، كما أنه في الوقت ذاته يعتبر اليوم الذي شهدت فيه تركيا أكثر أنواع محاولات الانقلابات غرابة وغدرًا وخيانة.
كلا الحدثَين أو اليومَين وإن بديا مختلفين في الظاهر، إلا أنهما مترابطان في الواقع.
بالطبع ليس القاسم المتشرك الوحيد بين الحدثين، أنّ محاولة الانقلاب التي حدثت في تركيا بعد 3 سنوات من اندلاع الثورة في تونس. قد صادفت تاريخ اليوم ذاته 17 ديسمبر. كما أنه ليس من الصحيح اعتبار أنّ أحد الحدثين كان متعلقًا بعموم الشرق الأوسط، والآخر كان متعلقًا بتركيا فحسب.
بل إنّ الحقيقة هي أنّ ما حدث في تونس يوم 17 ديسمبر 2010 ليس قضية مستقلة بأيّ حال عن تركيا. وكذلك الأمر ما حدث في تركيا من محاولة انقلاب غادرة عبر بوّابة القضاء يوم 17 ديسمبر 2013. لم يكن كذلك الأمر قضية منفصلة عن الربيع العربي الذي بدأ في الشرق الأوسط.
عشر سنوات مضت على ثورات الربيع العربي التي بدأت إثر إشعال بائع متجول النار بنفسه في تونس، يوم 17 ديسمبر 2010. احتجاجًا منه على سوء معاملة الشرطة له. وإن الربيع العربي الذي أصبح عنوانًا لأوسع مطالبات بالحرية والديمقراطية عاشتها شعوب الشرق الأوسط منذ زمن الاستعمار؛ لا شك أنه مرّ خلال هذه العشر سنوات بتجارب ومراحل مختلفة في كل بلد. إلا أن القاسم المشترك الذي كان بينها جميعًا؛ هو الصراع بين الشعوب التي تطالب بالديمقراطية والحرية والكرامة والعيش الكريم. وبين الحكومات الاستبدادية التي كانت تردّ على هذه المطالب بالقمع. ولطالما كان هذا الصراع نقطة تصل فيها الشعوب إلى حد الانفجار في أيّ مكان ولحظة.
إن الشعوب العربية التي تحركت وفق تلك المطالب قبل عشر سنوات. كانوا يدركون تمامًا حجم التخلف الذي تسبب به الاستبداد طيلة قرن من الزمن، وأن العلاقة بين الشعب والدولة يمكن أن تكون على نحو آخر غير الذي هم فيه.
لا شك بالطبع أن المرحلة المسمّاة بـ”العولمة” قد أثرت على تحركاتهم أيضًا. كانت تلك الشعوب تدرك وتعلم سبب افتقارهم للعديد من التطورات في هذا العالم، كانت تعلم أنّ انعدام حقوق الإنسان وحرية التعبير والعيش الكريم والازدهار. سببه حكومات تجثم على صدورهم دون أيّ انتخاب نزيه يدفعهم نحو الرحيل، وكأنهم قدر محتم على تلك الشعوب.
لقد وصل مستوى التعليم والتحضّر في المجتمع العربي إلى مستويات خطيرة. وإن حصل ارتفاع في مستوى التعليم، تظل الجودة مفتقرة للتطوير والتحسين، فضلًا عن انعدام ظروف عمل مناسبة للشريحة المتعلمة. حيث لا يمكن توفيرها مع وجود هذا النموذد من الحكومات، وهنا تكمن المعضلة، لأنّ كل إدارة من تلك الحكومات كانت تتحكم بالاقتصاد على مدار 20 أو 30 عامًا. دون أي عملية انتخابية، بل كان الاقتصاد يُدار بطريقة مزاجية تعسفية، من قبل أشخاص يتشاركون موارده فيما بينهم. ولذلك نجد أن معدلات الفقر كانت تأخذ في الارتفاع بشكل مستمر، على الرغم من وجود مقدّرات حقيقية، وقامات علمية جيدة.
إلا أننا نجد أن الشعوب التي كانت تحظي بمستوى تعليمي أعلى ومستوى حضاري أعلى كذلك. كانت أكثر انتقادًا ومطالبة بحقوقها، إلى جانب بدئها في الدفع نحو تأسيس محاور تمكنها من المشاركة السياسية.
هناك سبب آخر أيضًا، وهو الانفتاح الذي مكن هذه الشعوب من مقارنة بلدانها ببلدان العالم الخارجي. وذلك بفضل قنوات الاتصال التي سمحت للشعوب بمقارنة أوضاع بلدانهم بالبلدان الأخرى. ولا شك أن كل مقارنة كانت تزيد من مدى مسائلتهم لحكّامهم والسعي نحو محاسبتهم.
في تلك الأثناء، كانت تركيا في عيون تلك الشعب تجربة نجاح فريدة يتطلّعون إليها. على الرغم من أنّ مناهجهم التعليمية كانت تدرّسهم وتلقّنهم أن تركيا دولة محتلة استعمرتهم على مدار قرون من الزمن.
تركيا خلال القرن الأخير، كانت دولة تولي وجهها شطر العالم الإسلامي والعرب، وقد اختارت مسارًا علمانيًّا على الخط الأوروبي. كما أنها كانت أول من اعترف بإسرائيل دفعًا من الولايات المتحدة لدعم سياساتها في الشرق الأوسط.
كما كانت تركيا بهذه الصورة في نظر الشعوب العربية، قبل خمس سنوات على الأقل من اندلاع ثورات الربيع العربي.
وخلال هذه الخمس سنوات، كان هناك ما يحدث في تركيا أيضًا، كانت تعيش تركيا ثورة تنمية اقتصادية كبيرة. وإلى جانب هذه الثورة الاقتصادية كانت تشهد تركيا ثورة ديمقراطية في الوقت ذاته. ليس ذلك فحسب، بل كانت تركيا قد بدأت أيضًا في التوجه نحو العالمين العربي والإسلامي، والتصالح مع الإسلام، والأهم من ذلك. أنها كانت تقوم بذلك كله دون التوقف عن محاولة الاندماج مع الاتحاد الأوروبي. وعلاوة ذلك فإنّ تركيا باتت تتمتع بقائد بإمكانه أن يقول “لا” للولايات المتحدة. وأن يتحدى إسرائيل ويقف في وجهها، وأن لا يقدّم تنازلات خلال المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، بل إنه يتخذ موقفًا صارمًا يأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والشعب على الدوام. في ظلّ جميع تلك الانعكاسات التي ترسم صورة تركيا في وجدان الشعوب العربية. كان هناك مشهد جديد تمثل في موقف أردوغان ضد شمعون بيرز، وحادثة سفينة مرمرة التي يقول العرب عنها “سفينة الحرية”.
لقد كان هذا المشهد أحد الشواهد التي كانت تستند إليها الشعوب حين انتقاد حكوماتهم وحكّامهم. لقد ظل مطبوعًا في أذهانهم. كما لقد رأوا الفرق بين حكام أسود على شعوبهم، يذيقونهم شتى أنواع الاستبداد والقمع والطغيان والمهانة. وفي المقابل أذلاء ضعفاء أمام الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا. لقد رأت الشعوب هذه الفروقات، وباتت تنظر إلى تركيا في شخص أردوغان، وكأنه هدفها المنشود.
لقد رأت تلك الشعوب من خلال النموذج التركي الحديث، إمكانية وجود حكومة متواضعة أمام شعبها. رحيمة بهم، محسنة إليهم، بإمكانهم أن يسائلوها ويحاسبوها. وفي المقابل عزيزة شامخة مستقلة أمام الولايات المتحدة وإسرائيل والأوروبيين.
وبهذه الطريقة سرعان ما بدأ النظام الاستعماري الذي دام قرونًا في الانهيار. وأخذت اللائكية والصهيونية والاستعمار والاستبداد في التلاشي. حينها كان لا بدّ من فعل شيء إذن.
إلا أنه في الوقت ذاته، كان من اللازم أن يتمّ فعل شيء في تركيا مغاير لما حدث في نموذج الربيع العربي. التي كانت تركيا أحد ملهميه أصلًا. في الوقت الذي بدأنا نشهد فيه ثورات مضادة مقابل ثورات الربيع العربي. كان لا بدّ من أن يقوموا بمحاولة انقلاب في تركيا، تجسدت في أحداث 17 ديسمبر 2013.
لذلك نقول: بعد ثلاث سنوات كان هناك 17 ديسمبر (محاولة انقلاب في تركيا عبر القضاء) في مواجهة 17 ديسمبر (ثورات الربيع العربي).
بواسطة / ياسين اكتاي