حافظت تركيا والسعودية – البلدان الفاعلان في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي – على علاقات مستقرة لسنوات عديدة؛ إلا أن هذه العلاقات واجهت اختبارات صعبة في السنوات الأخيرة.
النهج الذي اتبعته الرياض وخاصة بعد العام 2015، تخطى المساعي العقلانية، ووصل في بعض الأحيان إلى حد الاستعداء، فكان الإضرار بالعلاقات الثنائية بين البلدين أمرا محتوما.
ومع ذلك، يمكن القول إنه لن يكون هناك مستفيد من هذا التوتر على المدى الطويل، وإن إعادة تأسيس مجالات التعاون بين البلدين ستنعكس بالفائدة على الطرفين والمنطقة.
قد تبدو أن العلاقات التركية السعودية لن تعود إلى سابق عهدها خلال فترة قصيرة. ومع هذا فإن المستجدات التي وقعت خلال الأشهر الأخيرة شكلت مناخا إيجابيا بين البلدين.
ومع التأكيد على ضرورة اتخاذ حكومتي البلدين خطوات بناءة خلال هذه المرحلة. فإنه يجب تدعيم هذه الخطوات بتوقف الحكومة السعودية عن السعي وراء مزيد من المغامرات، وتغليب “عقل الدولة” قبل كل شيء.
تصاعد توتر العلاقات بين البلدين مع انطلاق ديناميكيات مرحلة “الربيع العربي”. وتفاقم التوتر جراء عدد من المستجدات التي وقعت خلال السنوات الخمس الأخيرة.
ومما لا شك فيه أن أبرز أسباب توتر هذه العلاقات متعلق بالنهج الذي اتبعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي صعد لهذا المنصب عام 2017 بعد عامين من تولي والده الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد العرش في 2015.
اتبع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، سياسات لترسيخ سلطته، وانتهج سياسات المغامرة عبر انجراره وراء دولة الإمارات.
من ناحية أخرى يمكن أن توفّر تغير التوازنات في المنطقة واتخاذ عدد من الخطوات الدبلوماسية مع جلوس جو بايدن على كرسي الرئاسة الأمريكية، فرص التقارب بين تركيا والسعودية مجددا.
– نقاط الانكسار من الربيع العربي إلى مقتل خاشقجي
شكلت الحركات الشعبية التي اندلعت أواخر 2010 وسميّت بـ “الربيع العربي”. نقطة انكسار في العلاقات التركية السعودية. وخلال هذه المرحلة، دعمت أنقرة المطالب الديمقراطية للشعوب؛ فيما وقفت السعودية في الصف الثاني ضد ذلك الحراك.
وعلى الرغم من أن التطورات في مصر أحدثت فارقا واضحا بين سياسات أنقرة والرياض. إلا أن الجانبين لم يكونا راغبين في مواجهة الآخر.
كانت الرياض من أهم مؤيدي عبد الفتاح السيسي الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري أطاح بالراحل محمد مرسي في 2013. ومع ذلك استطاعت تركيا والسعودية المضي قدما في علاقاتهما في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
في 2014 اندلعت أزمة سحب عدد من دول الخليج بينها السعودية سفرائها من دولة قطر. احتجاجا على سياسات الدوحة؛ ومع تدخل الوساطة الكويتية تم حل هذه الأزمة لاحقا.
إلا أن الأزمة الخليجية عادت على وتيرة أشد في 2017، حيث أعلنت دول خليجية بينها السعودية قطع علاقاتها مع قطر، وهو ما وصفته الدوحة بالحصار.
أدت هذه الأزمة إلى توتر العلاقات التركية السعودية، بعد دعوة أنقرة إلى رفع الإجراءات المتخذة بحق قطر والجلوس على طاولة الحوار.
وأبرز أسباب توتر علاقات أنقرة والرياض على صعيد الأزمة الخليجية، هو اشتراط الدول المقاطعة للدوحة “إغلاق القاعدة التركية في قطر”.
مع حلول أكتوبر/ تشرين الأول 2018، فتحت صفحة جديدة من الأزمات بين تركيا والسعودية. مع مقتل الصحفي جمال خاشقجي بوحشية على يد فريق إعدام جاء من السعودية داخل قنصلية الرياض العامة بمدينة إسطنبول.
بعد هذه الجريمة، أكد المسؤولون الأتراك استعدادهم الدائم للتعاون في الكشف عن خيوط الجريمة. وأطلعوا الرأي العام عن كافة المستجدات المتعلقة بالجريمة. إلا أن عدم تعاون الجانب السعودي في التحقيقات أدى إلى تعميق التوتر بين البلدين.
وفي هذه الأثناء، تضمنت تقارير نشرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) معلومات تفيد بضلوع مسؤولين سعوديين كبار في جريمة القتل.
وعلى الرغم من الموقف الإنساني والقانوني لتركيا الذي أبدته في هذه المرحلة؛ إلا أن الجانب السعودي لم يستجب لدعوات التعاون في كشف الجريمة.
بالإضافة إلى ذلك، اتبعت الرياض سياسات مناهضة لتركيا حيال العديد من الملفات. بينها المستجدات في سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط والقضية الفلسطينية والعلاقات مع إيران، وصولا إلى الحرب بإقليم قره باغ الأذربيجاني.
خلال هذه المرحلة، حاولت السعودية تصعيد التوتر السياسي مع تركيا لتشمل الجانب الاقتصادي. عبر دعم حملات مقاطعة المنتجات التركية، وممارسة ضغوط بحق التجار الأتراك على أراضيها، والضغط على المستثمرين السعوديين في تركيا.
ومن ضمن سلسلة الإجراءات السعودية التي أدت إلى تصعيد التوتر مع تركيا، إغلاق المدارس التركية في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومحاولات تشويه التاريخ العثماني في الكتب المدرسية، والضغط على وسائل الإعلام التركية.
كما أنه لا يمكن تجاهل تأثير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر على التناقضات في السياسة الخارجية السعودية بالقيادة الفعلية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لقيت كافة محاولات الأمير الشاب الذي انجر وراء سياسات الإمارات، دعم إدارة ترامب الكامل لزعزعة استقرار المنطقة.
إلا أن خسارة ترامب أمام بايدن في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كانت تطورا حتّم على الرياض رسم مسار جديد لخارطة سياستها الخارجية.
ومن أبرز اتباع سياسات جديدة في سياستها الخارجية. تصريحات بايدن الواضحة والقاسية وتحركاته تجاه السعودية في العديد من القضايا كمقتل خاشقجي وحرب اليمن وحظر الأسلحة، بجانب احتمال قيام إدارة بايدن بإجراء حوار مع إيران.
وبالإضافة إلى ما ذكر، يجب الإشارة إلى المشاكل والصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها السعودية. حيث ارتفع الدين العام في البلاد 21 ضعفا في السنوات الست الماضية وانخفضت الاحتياطيات إلى 450 مليار دولار.
وتكشف هذه المؤشرات أن الإصلاحات الاقتصادية لولي العهد السعودي لم تحقق النجاح المنشود.
من ناحية أخرى، ينبغي الإشارة إلى سلسلة من المشاكل العالقة في العلاقات التركية الأمريكية التي ينبغي إيجاد حل لها خلال فترة رئاسة بايدن للولايات المتحدة.
– العقل السليم هو مفتاح الحل
خلال المحادثة الهاتفية بين الرئيس أردوغان، والملك سلمان، قبيل استضافة السعودية لقمة مجموعة العشرين العام الماضي. اتفق الجانبان على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة. تلاها تصريحات إيجابية متبادلة من البلدين، لتكون بذلك أولى بوادر تحسن العلاقات.
إن وصول الديموقراطيين سدة الحكم في الولايات المتحدة، قد يفتح الطريق أمام تسريع وتيرة العلاقات بين أنقرة والرياض. فرغم كون البلدين حليفين تقليدين للولايات المتحدة. إلا أن بعض تصريحات بايدن وإدارته تزعج تركيا والسعودية.
ومن جهة أخرى، تواصل الولايات المتحدة أنشطتها العسكرية في المنطقة، وتعتبر السعودية حليفا مهما لها في هذا الإطار. حيث منحت الإذن للجيش الأمريكي حق الوصول إلى القواعد الجوية في الطائف وتبوك، فضلا عن ميناء ينبع البحري. لكن من جانب آخر، يجب على الديمقراطيين تبني سياسات براغماتية بشكل أكبر. إذ ينتظر مواطنو الولايات من رئيسهم الجديد تنفيذ وعوده الانتخابية.
ورغم انزعاج الرياض من إعلان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إزالة الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية. إلا أن نهاية حرب في اليمن سيعزز من مكانة بايدن أمام ناخبيه، وسيقلص من ردود الفعل الغاضبة تجاه مبيعات الأسلحة إلى السعودية.
والأكثر من ذلك، قد يعتبر هذا الأمر فرصة أمام السعوديين العالقين في مستنقع اليمن سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وفي حال عدم تراجع السعودية خطوة إلى الوراء بالرغم من حظر توريد الأسلحة الأوروبية إليها، قد تشكل الصناعات الدفاعية التركية بديلا مهما لها.
من ناحية أخرى، لا يخفى على أحد محاولة ولي العهد محمد بن سلمان إرضاء إدارة بايدن. من خلال تصريحاته الأخيرة حول حقوق الإنسان، كما لا يعتبر إطلاق سراح الناشطة لجين الهذلول، بعد 3 سنوات من الاعتقال، أمرا محيرا في هذا الصدد. والأكثر من ذلك يعد احتمال إطلاق سراح المزيد من المعتقلين السعوديين واردا، لكن ورغم ذلك لا يزال هناك عددا من المشاكل الصعبة بين الرياض وواشنطن.
– لا فائز في الصراع
لن يكون من الخطأ القول إن التوتر بين تركيا والسعودية لن يحقق مكاسب للبلدين وعموم المنطقة على المدى البعيد. ويبدو أن سلسة من المشاكل الخلافية بين الرياض وأنقرة أوشكت على النهاية، حيث تم التوصل إلى حل للأزمة الخليجية.
كما يمكن لتركيا أن تلعب الدور الوسيط في الحوار بين السعودية وجماعة الإخوان المسلمين. إلى جانب الكثير من الأنباء المنتشرة مؤخرا حول نية مصر في إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين لديها، بدعوة من السعودية.
إن مراجعة السعودية بقيادة الملك سلمان وولي العهد لسياستها الخارجية وتبنيها سياسات بناءة. قد يلعب دورا في ذوبان الجليد في العلاقات بين البلدين، إذ لن تحقق الرياض أية مكاسب من تمويل الجماعات الإرهابية في سوريا وليبيا. وتأييد الأطروحة اليونانية المعادية لتركيا في شرق المتوسط.
ومن جهة أخرى، فإن الاتجاه الإيجابي للعلاقات بين تركيا والسعودية قد يفتح الباب أمام العديد من الفرص، وخاصة في المجالين السياسي والاقتصادي.
لكن من ناحية أخرى، يجب ألا ننسى وجود خلافات صعبة بين البلدين، يأتي في مقدمتها قضية محاسبة قتلة خاشقجي. حيث يُرى ولي العهد أنه المسؤول عن هذه الجريمة، لكن يبدو أن إصدار القضاء السعودي حكما واضحا بهذا الخصوص غير ممكنا. في حين لن تتخل تركيا عن موقفها الإنساني من القضية، ولن تستغل الملف كورقة مساومة سياسية.
وأخيرا، يمكن القول إن حل المشكلات سيكون أكثر صعوبة إذا تولى محمد بن سلمان الحكم، خلفا لأبيه البالغ من العمر 85 عاما.
لكن وكما تدعي بعض وسائل الإعلام الغربية، إذا تم تعيين ولي عهد جديد أكثر خبرة من محمد بن سلمان. قد يتيح المجال أمام تغيرات كبيرة في السياسة الخارجية السعودية. خاصة مع وجود عدد من الأسماء المناسبة لهذا المنصب من أبناء الملك سلمان، وأبناء أشقائه.
إلا أن نفس وسائل الإعلام الغربية تشير إلى أن تحقيق هذا الاحتمال في المدى القريب يبدو صعبا مع مساعي محمد بن سلمان لترسيخ مكانته في الإدارة السعودية.
بواسطة / يوسف بهادر كسكين