هل سرقت فرنسا حديد برج إيفل من الجزائر؟
بعد مرور 132 سنة -وهي نفسها مدة احتلال فرنسا للجزائر- على تشييد أحد أهم المعالم السياحية في العالم، ” برج إيفل ” الشهير بالعاصمة باريس، خلال فترة حكم الجمهورية الثالثة، بمناسبة الاحتفالات بالذكرى المئوية الأولى للثورة الفرنسية سنة 1889؛ لا تزال “تهمة” سرقة ما يقارب 7 آلاف طن من الحديد الجزائري تلاحق المستعمر القديم.
وظهرت خلال الأعوام الأخيرة روايات متضاربة بين البلدين عبر المنابر الإعلامية. بشأن مصدر الحديد المستعمل في إنجاز أطول مبنى في العالم إلى غاية سنة 1930، تاريخ بناء مبنى كرايسلر (Chrysler) في نيويورك.
وفي وقت يصرّ فيه الفرنسيون على أن حديد برج إيفل نُقل من مدينتي لوريان ونانسي الفرنسيتين. يتداول جزائريون قصّة نهبه من بلادهم بفعل إعجاب المهندس غوستاف إيفل بنقاوة حديد الجزائر المستكشف. وقتها من فرق البحث عن المعادن رفقة الجيش الفرنسي.
بل يشير الجزائريون إلى سرقة فرنسا آلاف الأطنان من الحديد من منجميْ الروينة وزكار. بمدينتي عين الدفلى وخميس مليانة (150 كلم غرب العاصمة) لبناء برج إيفل.
وللخروج من تناقض الأحاديث الصحفية ومرويّات مواقع التواصل الاجتماعي دون سند تاريخي أو أدلة موثقة، توجهت بسؤالها عن حقيقة تلك المعلومات الرائجة إلى الباحث الجزائري في تاريخ الاقتصاد، البروفيسور محمد الصالح بوقشور، خرّيج جامعة ستراسبورغ الفرنسية.
بداية النشاط المنجمي في الجزائر
وقال بوقشور -وهو أيضا عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حسيبة بن بوعلي. في محافظة الشلف (200 كلم غرب العاصمة)- إنّ مؤسسة واحدة مختصة في استخراج معدن الحديد كانت تنشط بالجزائر عندما قررت فرنسا. بناء معلمها المعماري سنة 1886، وهي شركة مقطع الحديد (Compagnie des mines de fer magnétique de Moka-el- Hadid).
وأوضح أنّ الشركة تأسست في أبريل/نيسان 1865 من طرف المهندس بولان تالابو، وهو أحد المنظرين للتيار السانسيموني. الذي ساهم بفعالية في إنجاز مشاريع عالمية ضخمة على غرار قناة السويس.
واشترى تالابو منجم عين مقرة (برّحال حاليّا) في محافظة عنابة بالشرق الجزائري، من مالكه الأول أوغان دو باسانو. والذي كان قد بدأ في استغلاله منذ سنة 1846.
ثمّ استحوذت الشركة عام 1879 على منجم ثان بمدينة بني صاف بغرب الجزائر.
وبذلك لم تكن تنشط في قطاع استخراج الحديد بالجزائر مع بداية أشغال بناء برج إيفل سنة 1887، سوى شركة واحدة امتلكت 3 مناجم فقط. بحسب ما أورده أوغست باولاوسكي في الصفحة التاسعة من “دليل المناجم. والخامات المعدنية في فرنسا والجزائر، باريس” الصادر سنة 1919.
وبخصوص الطاقة الإنتاجية خلال الفترة الممتدة من سنة 1886 إلى نهاية الأشغال في برج إيفل سنة 1889. فقد كانت قدرات فرنسا المنجمية في حدود 2.6 مليون طن سنويا.
ولتغطية عجزها، كانت تستورد 1.5 مليون طن سنويا من 3 دول أوروبية، إضافة إلى مستعمرتها الجزائر (600 ألف طن من ألمانيا. وحوالي 400 ألف طن من إسبانيا، وما يقارب 100 ألف طن سنويا من بلجيكا)، بحسب المؤرخ بوقشور.
أمّا فيما يتعلق بالحديد المستورد من الجزائر، وبناء على ما نشرته آنذاك الأسبوعية المختصّة “صدى المناجم” (l’échos des mines). في عددين (الأول في 5 فبراير/شباط 1888، والثاني في 2 فبراير/شباط 1890)، فقد صدَّرت سنة 1885 مستعمرة الجزائر 140 ألف طن نحو فرنسا. وتناقصت الكمية سنة 1886 إلى 80 ألف طن، قبل أن تنخفض في 1887 إلى 47 ألف طن، بل تناقصت سنة 1888 حتّى وصلت إلى 25 ألف طن. لكنها ارتفعت مجدّدا إلى 35 ألف طن سنة 1889، موعد إنهاء أشغال البناء ببرج إيفل.
وما يميز المادة الأولية للحديد الخام الجزائري هي نسبة الحديد العالية فيه، إذ تتراوح ما بين 49% و52%. إضافة إلى احتوائها على مادة المنغنيز، حيث تصل نسبتها إلى ما بين 5% و7% بالنسبة لمنجم بني صاف، أما منجم البارود -القريب من المنطقة هو الآخر. والذي بدأت الشركة استغلاله سنة 1911- فإن نسبة الحديد فيه تفوق 60%. بحسب ما سجله باولاوسكي في الصفحة 70 من مرجعه السابق.
منجما زكار والروينة الجزائرييّن
من جهة أخرى، يؤكد المؤرخ الجزائري أنّ منجم زكار يعود اكتشافه إلى الفترة الرومانية. بينما سبق حدس الأمير عبد القادر الكثير من البلدان باستغلاله لهذا المنجم، بعدما عرف أهمية الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا آنذاك. حيث استطاع تشييد أول مصنع للسلاح بالمواصفات الأوروبية سنة 1839. مستعينا بخبرة تقنيّين فرنسيين، كما زوّده بفرن كاتالاني يُعدّ الأول من نوعه في شمال أفريقيا.
لكنّ فرنسا بعد استيلائها على المدينة سنة 1840، حوّلت المصنع لأغراض أخرى، وأغلقت المنجم إلى غاية 22 مارس/آذار 1904. حيث أُنشئت في باريس شركة منجم زكار التي أسسها كل من مولر المقيم حينها بمدينة روتردام الهولندية، بأسهم قدرها 75%، مع شريكه الثاني وهي مؤسسة فيلوس للحديد (Fillos) بحصّة 25%.
وبذلك تمّ تشغيل المنجم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1904 بطاقة إنتاجية تقارب 300 طن يوميا، وأكثر من 100 ألف طن للسنة. وفق أرقام أسبوعية “صدى المناجم”، في عددها الصادر بتاريخ الخميس 7 سبتمبر/أيلول 1905.
أما منجم الروينة، فهو حديث الاكتشاف مقارنة بسابقه، حيث يعود ظهوره إلى سنة 1872 من طرف مقاول فرنسي اسمه غاغان. كان يربطه عقد مع شركة بناء خط السكة الحديدية الواصل بين محافظتي وهران والجزائر.
وبعد حصوله على رخصة استغلال المنجم من الإدارة الفرنسية. قام غاغان بإنشاء شركة منجم الحديد للروينة (Société des mines de fer de Rouina). قبل بيعها لاحقا لمقاول آخر يدعى ألفريد ثيز سنة 1903.
وبدأ المقاول الجديد استغلال المنجم بتاريخ 16 فبراير/شباط 1906، ثمّ باعه بعد سنة واحدة، إذ فاقت طاقة الشركة الإنتاجية 850 ألف طن سنويا. وهي نسبة معتبرة في تلك الفترة، بحسب ما وثّقته الأسبوعية المصورة لصحيفة “شمال أفريقيا” (باريس، الجزائر العاصمة، تونس، باليرمو. في عددها رقم 91، من السنة الـ16، بتاريخ 26 فبراير/شباط 1921، في صفحتها 119.
خلاصة مؤقتة
وبتحليل المعطيات والمؤشرات السالفة، يستنتج المؤرخ الجزائري محمد الصالح بوقشور أنّ الحديد المستعمل في بناء برج إيفل. لم يستخرج لا من منجم زكار ولا من منجم الروينة.
ويدلّل على خلاصته العلميّة بكون الانتهاء من إنجاز المعلم الباريسي تمّ سنة 1889، بينما لم ينطلق استغلال المنجمين المذكوريْن. إلا سنة 1904 بالنسبة للأول “زكار”، و1906 بالنسبة للثاني “الروينة”.
ويبرهن على نتيجة بحثه أيضا بوجود مؤسسة واحدة خلال فترة بناء البرج، وهي شركة مقطع الحديد التي كانت تمتلك 3 مناجم. منجمان منها في الشرق الجزائري والآخر بأقصى الغرب، في حين لم تمتلك رخصة استغلال منجمي زكار والروينة.
وعليه، فإنّ احتمال استعمال حديد الشركة المذكورة التي نشطت في الجزائر يبقى ضئيلا جدا من الناحية العلمية. لانعدام أدلة تاريخية موثقة عليه. وللتأكد من ذلك -بحسب المؤرخ بوقشور- يجب العودة لأرشيف مصنع فولد ديبون (Fould-Dupont) بمقاطعة مورث موزال. للاطلاع على أرشيف مصادر المادة الخام التي استعملها المصنع في إنجاز برج إيفل. ومعرفة إن كان مصدرها شركة مقطع الحديد بالجزائر أم لا؟