يبدو أن الحملة الجوية للقوات المسلحة التركية التي ضربت مواقع لتنظيم بي كي كي الإرهابي في المناطق الشمالية من العراق وسوريا، قد حققت أهدافها، وردَّت الصاع صاعين على العملية الإرهابية التي خطط لها التنظيم الإرهابي في منطقة تقسيم بإسطنبول. وهذا ما أكدته الأرقام الصادرة عن وزارة الدفاع التركية مساء الاثنين الفائت.
وأعتقد أننا أكملنا التحليلات العسكرية والتقنية لهذه العملية، كالمواقع التي استُهدفت وكيفية أصابة الأهداف، وأنواع الآليات والذخائر المستخدمة، فقد تم تحليل كل هذه الأمور بشكل مفصل. وعلاوة على ذلك تبيَّن أن هذا المسألة ليست ذات بعد عسكري فحسب، حيث تم التركيزعلى القوى التي تقف وراءها.
إذا كانت عملية المخلب- السيف عبارة عن عقوبة، فقد نُفذت العقوبة على أكمل وجه كمًا وكيفًا. وإذا كانت تحمل في طياتها رسالة ما -وهي كذلك بالطبع- فيمكننا فهمها من خلال المواقع التي استُهدفت.
وبعض الأحداث التي عشناها من قبل تضطرنا إلى إرسال مثل هذه الرسالة.
أمريكا: “نحن نعلم ما تفعلونه”
لا شك أن أمريكا أرادت الإيعاز برسالة إلى “حلفائها” قبيل العملية التي استهدفت القنصلية التركية في أربيل، ونحن نعرف جيدًا ما الذي تريد قوله لتركيا، فهي تريد أن تقول لنا: “قفوا، فنحن نعلم ما تفعلونه”.
وطبعًا نعلم أيضًا أن أمريكا لديها أنشطة استخباراتية ضد “حليفتها” في حلف الناتو (تركيا)، وهذا ليس جديدًا ولا يشكل مفاجأة بالنسبة لنا. ولكن الفرق هو أننا كنا نشرح ذلك سابقًا، أما الآن فأمريكا هي التي تفصح عن رغباتها بشكل صريح.
لكن ثمة أمر مهم ينبغي التنويه به، وهو التوقيت الذي أصدر فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعليماته للبدء بالعملية العسكرية التركية، حيث أصدر تعليماته وهو في طريق عودته من قمة مجموعة العشرين أي بعد يوم واحد فقط من لقائه الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وتفسير التسلسل الزمني لهذه الأحداث على أنه اتفاق تركي أمريكي على تنفيذ هذه العملية ليس إلا ضربًا من الخيال أو التمني. إذ يجب القول إن تركيا نفذت عمليتها على الرغم من اللقاء الذي جمع أردوغان ببايدن.
أصلًا مدة الاجتماع الذي جمع الزعيمين لم تكن كافية لبحث مثل هذه القضايا، وحتى الظروف ليست مواتية لذلك، حتى إن أردوغان قال صراحةً: “إننا لم نتباحث حول هذه العملية لا مع بايدن ولا مع بوتين، فكلاهما يعلم أننا في أية لحظة قد نقدم على عملية ما في هذه المنطقة”. وهذا التصريح من أردوغان كفيل بإنهاء الجدل حول هذا الموضوع.
ولا داعي أصلًا للإفصاح عن الخطط والرغبات فكل الأطراف على اطلاع بما يجري، وهي تعرف بعضها جيدًا.
ويمكننا اعتبار الحالة النفسية الناجمة عما جرى في إندونيسيا من العوامل التي ساعدت على ذلك.
خلال قمة مجموعة العشرين، وردت معلومات تفيد بأن روسيا نفذت هجومًا صاروخيًا على بولندا، وقد نفت جميع الأطراف هذا الادعاء، باستثناء زيلينسكي الذي أحدث بلبلةً على مستوى العالم، وأثار قلق الناتو. وحينها دعا بايدن أعضاء الناتو الحاضرين في القمة إلى اجتماع خاص مستبعدًا تركيا عن هذا الاجتماع، وواضح أن ذلك آثار حفيظة أنقرة.
ولدى تقييمه العملية العسكرية انتقد أردوغان هذه المرة روسيا كما انتقد أمريكا، مكررًا الإشار إلى أن كلتا القوتين العظميين لم تلتزما بالاتفاقيات المبرمة.
لم يعد هناك بعد عسكري وسياسي لم يتم تحليله في تقييم هذه العملية باستثناء المعلومات السرية لدى الدولة. ولكن لا بد من استمرار الخوض في غِمار الجانب الاستراتيجي والجيوسياسي.
العملية التي نفذتها تركيا هي أشمل عملياتها العسكرية بعد توقف طال كثيرًا. فقد توغلت في عمق دولتين مجاورتين، وبدأت ترسم خريطة المواقع التي لم تستهدفها من قبل. فهل هذه إشارة إلى بداية عملية تركية جديدة لاستهداف الإرهاب وداعميه.
ومن المتوقع تنفيذ عمليات عسكرية برية، ويرى كثير من الخبراء أنه ثمة حاجة ماسَّة إلى ذلك، وأن مثل هذه العملية تأخرت كثيرًا. ولكن السؤال نفسه سيُطرح مرة أخرى في أثناء هذه العملية المحتملة وبعدها.
إن بدايةً جديدة من هذا القبيل لا تتأتى استنادًا إلى الظروف العسكرية، فهي تتحقق من خلال توفر الظروف الدبلوماسية والسياسية، وتطورها بشكل متزامن. وأرجو ألا يُفهم من هذا الكلام أن القصد هو الرؤية التقليدية للواقعية السياسية من قبيل “يمكن الحوار حتى مع الشيطان”.
والقاعدة التي لا بد منها هي أن البداية الجديدة ستكون ناجعة أكثر، إذا كانت غير مرتبطة بالخريطة الكبرى، وموازية للقوقاز من جهة، والتغيرات التي تطرأ على ديناميكيات الشرق الأوسط من جهة أخرى.
أمثلة على ذلك
نتائج الانتخابات النصفية الأمريكية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر؛ والتغير في مواقف أمريكا وروسيا وألمانيا وربما بريطانيا، فيما يتعلق بإعداد طاولة حوار قد تُنهي الحرب الأوكرانية؛ والعلاقات التركية الإسرائيلية؛ ورسالة أردوغان في التودد إلى دمشق قبيل العملية؛ والوضع الإيراني المتأزم كما تحدثت عنه في مقالي السابق؛ والجيوسياسية التي رسمتها العلاقات التركية الأذربيجانية؛ والتطورات المتوسطية التي تشمل ليبيا وبريطانيا ومصر واليونان وفرنسا وإيطاليا؛ والتطورات الآسيوية؛ وغير ذلك من الأمثلة التي لا تنتهي.
هذه ليست عناوين منفصلة، بل مجموعة مواضيع ضمن ملف واحد. فهل ثمة رابط بينها في جانب معين أو لا؟ وطبعًا كل الأطراف المذكورة لديها مصالح مختلفة، ولكن هل ثمة متغيرات ستقودهم إلى الوفاق عند الضرورة؟
إن الذين ينتقدون رغبة أنقرة في التقارب مع السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وسوريا ومصر، كالذين يرون أن الأرض لا تدور، وأن علاقات الدول ومصالحها لا تتغير.
في الحقيقة ثمة حركة دائمة، وهي قادرة على تغيير مجرى الحياة. ويجب على صنَّاع القرار أن يبدؤوا بتطبيق المرحلة الجديدة من الخطة التركية في مكافحة الإرهاب.
بواسطة / نيدرت إيرسانال