زلزال سياسي يصيب تركيا
بينما لا تزال تركيا تلملم جراح زلزالها الحقيقي الذي اصاب كثيراً من مدن الاناضول، ودمر مئات الآلاف من البيوت ، وشرد الملايين ، وشغل المواطن بأهواله ودماره ومضاعفاته ، وأبعده عن حديث السياسة .
نستيقظ اليوم على زلزال جديد لكنه من نوع آخر وطعم آخر …
ليس به دمار للبيوت لكنه دمار للسياسة وللسناريوهات ومخططات هندسة المجتمع بدل هندسة البيوت ، هذه السناريوهات التي كانت تعمل من أجل هدف واحد وهو اسقاط أردوغان بالدرجة الأولى وتغيير النظام الرئاسي والعودة الى النظام البرلماني من جديد.
انه زلزال أكشنار وقلب الطاولة السياسية …لتصبح خماسية ..وربما سباعية وأكثر..
الأسبوع الماضي كتبت مقالاً بعنوان هل يزلزل أردغان تركيا من جديد ، ويبدو أن أكشنار استعلجب الأمر وأرادت أن تنال اللقلب مبكراً لتقلب الموازين والحسابات من جديد وربما لتسهل زلزال أردوغان القادم …!؟
ومن يدري لعلها تكون جزءً منه!!؟؟
حالة من خيبة الأمل والغضب تسود الأوساط الاعلامية وكثير من حملة الأقلام والاكاديميين الذين كانوا يُسوقون للطاولة السداسية، ويصورونها على أنها هي المنعطف الأخير قبل الجسر والمنفذ الأخير قبل النفق والفرصة التي لن تعود لاخراج تركيا من سيطرة الرجل الواحد ..
الرجل الواحد هي العبارة التي تحلو لهم وينسجون عليها ليحشدوا أصوات كل الناقمين والمعترضين والمتذمرين والمتضررين .
المشكلة أن كثيراً من هؤلاء الاكاديميين يدركون هشاشة ما يدافعون عنه، وربما هم بالاصل غير مقتنعين بما يقولون ،لكن عداوتهم لأردوغان ، وعدم تقبلهم لأبناء الاناضول الذي يحكم تركيا الآن ، تسوغ لهم أنفسهم رغم ما يحملونه من شهادات ومناصب عليا أن يخوضو بحديث يدرك الناخب البسيط بطلانه من الوهلة الأولى ،والدليل هو انقلاب هؤلاء بلحظة واحدة على أكشنار ونعتها بأبشع الصفات لأنها خالفتهم وخرجت عن مخططهم ، بينما كانت بالنسبة لهم بالأمس القريب الشخصية الوطنية المعتدلة التي تجمع الوسط ومحل ثقة المواطن التركي وأمل تركيا القادم.
الكثيرون أبدوا خيبة أملهم ودهشتهم واستغرابهم لما حدث
لكن الحقيقة وكل المعطيات والمقدمات – وهي كثيرة – كانت تشير بأن هذه الطاولة تهتز وتتهاوى منذ زمن طويل ، وما يجمعها سوى شيئ واحد وهو مجبورية الجميع لها للتخلص من اردوعان وبعدها ليكن الطوفان…
من أول وأهم هذه المعطيات التي كانت تنذر بتصدع الطاولة باي لحظة، تناقض وتضارب التوجهات السياسية والفكرية والاقتصادية والعقائدية لدى المجتمعين على الطاولة، كان هذا واضحا تجاه الموقف من ارسال القوات العسكرية لخارج تركيا،والموقف من اتفاقية (معاهدة اسطنبول)والاتفاق مع حزب الشعوب الديمقراطية ،ناهيك عما يمس حياة المواطن الاقتصادية والتجارية بشكل مباشر .
ثانيا:ضبابية المرحلة الانتقالية التي ستسبق العودة للنظام البرلماني ، فرغم انهم كانوا يصفون النظام الرئاسي – بالاعجوبة- لكنهم جاءوا بأعاجيب متناقضة عن شكل النظام الانتقالي الذي لم يتفقوا عليه ،فتارة رئيس بدون صلاحيات ، وتارة مجلس رئاسي ، وتارة نائب رئيس بصلاحيات مطلقة .
ثالثا : عجز الطاولة السداسية عن تسمية مرشحهم، بحجة ان الاعلان المبكر سيرهق المرشح وينال من سمعته ويحرقه سياسيا ، وهي وان كانت حجة داحضة مرفوضة من الناخب التركي البسيط الذي ينادي بملئ فيه ، كيف لمرشح سيحكم تركيا ويقودها ونخشى عليه من أن تآكل سمعته بهذه الفترة القصيرة …!!.؟ ولماذا رئيس الجمهورية أردوغان الذي هو منذ عشرين سنة بالحكم لايزال هو بالمقدمة وبفارق كبير بكل استطلاعات الرأي !؟؟
طبعا هذه كانت حجة للتهرب من مواجهة الحقيقة التي كشفت الساعات الأخيرة عنها وهي عدم الاتفاق على شخصية المرشح ولا حتى عن موصافاته ومعاييره…وعن حجم الخلاف الكبير بينمهم…
رابعا : الطاولة كانت تعيش حربا مستمرة بأشكال مختلفة بين المكونيين الاساسيين لها كليجدارأوغلو وأكشنار حول المرشح للرئاسة ..
حرب استخدم بها كل الوسائل المباحة والمحرمة بالسياسة والعرف الديمقراطي…
حاولت أكشنار ثني كليجدارأوغلو عن الترشح بكل الطرق من ترهيب وترغيب ، ألمحت له عبر مساعديها أن أنتماءه للطائفة العلوية يمنع ذلك ،وأن الاستطلاعات كلها تشير بأنه لن يفوز أمام أردوغان، وعليه أن يتحمل المسؤولية التاريخية ويقدم المصلحة الوطنية على المصلحة الفردية…لكن دون جدوى كما صرحت بذلك أخيرا…
وعندما طرحت اسماء رؤساء بلدية اسطنبول وانقرة ورفض كليجدارأوغلو ذلك بشدة وأمام موافقة بقية الاحزاب الاخرى على ترشيح كليجداراوغلو وجدت نفسها وحيدة لم يبق أمامها خيار سوى مغادرة الطاولة.
وأخيرا وصلت الطاولة لطريقها المسدود – الذي كان متوقعاً- وأجبرت أكشنار لاختيار الموت أو الاصابة بالملاريا كما قالت …يعني الرمد أو العمى…
ولم يبق أمامها سوى قلب الطاولة…
ولأول مرة بتاريخ تركيا تطالب رئيسة حزب بترشيح رؤساء بلديات من حزب آخر ..
وهذه طعنة لحزبها بالدرجة الأولى الذي يعجز عن طرح مرشح من أعضاءه بغض النظر عن النتيجة …
وماذا بعد الآن …!؟؟
وماهي الاحتمالات القادمة !!؟؟
هناك قول معروف يكرره السياسيون لرئيس تركيا السابق سليمان دميرال يقول اربع وعشرون ساعة بالسياسة وقت طويل…
يعني قد تحمل هذه الساعات مفاجئات كثيرة دائماً…
لذلك كل الاحتمالات واردة بالسياسة طالما تظل ضمن كونها احتمالات
الاحتمال الأول: هناك من يعول لعودة أكشنار للطاولة من جديد وخاصة بعد أن أدركت أن امام اوغلو ومنصور يواش قد اعلنوا أنهم لن يخرجوا عن طاعة وقرارات رئيسهم ..
يقولون ان اكشنار رفعت الأمر بهذا الشكل كي تحصل على نائبة رئيس بصلاحيات مطلقة مع رئاسة البرلمان …
تسريبات تقول بأن أمام اوغلو يقوم بدور المصالحة والتقارب في هذه الساعات المتبقية..
وهذا احتمال ضعيف لأن الجرة قد انكسرت وتناثرت اجزاءها…
الاحتمال الثاني : أن تُقنع أمام اوغلو بالمخاطرة وتحمل المسؤولية والترشح لأجل انقاذ السفينة رغما عن كليجدارأوغلو …
احتمال يرى البعض امكانيته وان كانت ضعيفة ..
الأحتمال الثالث: استدارة اكشنار وعودتها للاتفاق الجمهوري بأسم الحزب كمكون جديد..
تصريحات ودعوات أردوغان وبهجلي السابقة لها تدعم هذا الاحتمال ..
وتصريحات رئيس حزب البرليك الكبير احد مكونات الاتفاق الجمهوري الليلة الماضية زادت من احتمالية هذا الاحتمال …
احتمال صعب وأمامه تحديات كبيرة ومعارضة من كوادر الحزب…لكنه وارد …وسيرحب به كثير من الناخبين وربما يكون الزلزال والحالة العاطفية القومية الجياشة الآن تسهل ذلك…
وربما هذا الاحتمال يتمناه الكثير ممن يدعمون العدالة والتنمية ويخشاه من يدعم المعارضة من حملة أقلام صحفيين واكادميين …
الاحتمال الرابع:ترشح أكشنار نفسها للرئاسة بحجة انه لم يبق خيار آخر ، وتراجعت عن قرارها السابق بعدم الترشح ، وتشكيل تجمع جديد من الأحزاب الاخرى خارج الاتفاقين – الجمهور والملة- وبدأت ارهاصات ذلك منذ الآن….
الاحتمال الخامس :عدم الترشح للرئاسة والعمل على حشد الحزب لنيل أكبر قدر من الأصوات من أجل دخول البرلمان بمقاعد أكثر وتشكيل كتلة برلمانية انتظارا لتغيرات مابعد الانتخابات وربما مابعد أردوغان … وترك الناخب حرا أمام الانتخابات الرئاسية في هذه الدورة …
أما من يسأل عن موقف الاحزاب الاخرى الداعمة لكليجدارأوغلو من السعادة وحزب داووداغلو وباباجان ،فهذه الاحزاب ليست معنية اليوم بفوز كليجدارأوغلو من عدمه بقدر ماهي معنية بدخول البرلمان بأكبر مقاعد ممكنه ، يمن بها عليهم حزب الشعب الجمهوري.
وهذ درس سياسي ايضا لما وصلت له حالهم …
كان الهدف من انشاء الطاولة – ولايزال – بدعم داخلي وخارجي هو اسقاط أردوغان – وهذا حق سياسي مشروع – طالما ضمن القواعد الديمقراطية وعبر صناديق الاقتراع.
اليوم الهدف هو منع أردوغان من حسم الفوز بالجولة الأولى على الأقل ، ليتم الحشد بدعم المرشح المتبقي من المعارضة للفوز بالرئاسة …
وهذا ما يجعل التنافس حادا بين مرشحي المعارضة ولايزال يدغدغ أحلام امام اوغلو رغم ادراكه حجم الخطر والمجازفة…
ودائما يظل الحكم والفصل بالدول الديمقراطية بيد الناخب والمواطن وهو ما سيقوله الناخب التركي بعد سبعين يوميا من كتابة هذه السطور …