مع نشر أخبار وتقارير – لم يتم نفيها رسميا- عن بدء السلطات السعودية الإفراج عن أمراء ومسؤولين موقوفين بتهم فساد في المملكة بموجب اتفاقات تسوية بين الجانبين، أثيرت تساؤلات مجددا حول جوهر وأسباب حملة مكافحة الفساد وآلية التسوية بها.
وكان اللافت أن يتساءل كتاب مقربون من السلطة مثل تركي الحمد عن أسباب الإفراج عن معتقلين متهمين بالفساد بدون محاكمة ومطالبتهم بعقابهم حتى لو ردوا المبالغ التي بددوها .
أيضا أثيرت مجددا تساؤلات حول طبيعة اتفاقات التسوية، وما إذا كانت مجرد تسويات مالية أم أن لها جوانب وأبعاد سياسية.
كذلك هناك تساؤل حول طبيعة المرحلة القادمة في حملة مكافحة الفساد، فهل ستنتهي الحملة بإجراء تسويات مع المعتقلين الحاليين؟، أم أن هناك قائمة أخرى تنتظر الدور وخصوصا في ظل حديث عن أن المعتقلين يتم محاسبتهم على جرائم ارتكبوا بعضها على مدار عقود مضت ، أم أنها حرب مفتوحة ضد الفساد ترتبط بوقائع وجرائم أكثر من ارتباطها بقوائم وأسماء؟.
*** الحملة ضد الفساد.. من الاعتقال حتى التسوية
“الحملة ضد الفساد” كانت قد انطلقت عقب إصدار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، في 4 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، أمرا بتشكيل لجنة عليا برئاسة نجله ولي العهد المير محمد بن سلمان، للتحقيق في قضايا الفساد، واتخاذ ما يلزم تجاه المتورطين.
وكان لافتا بعد دقائق من الإعلان عن تشكيل اللجنة، القبض على أكثر من 200 شخص، منهم 11 أميرًا و4 وزراء حاليين وعشرات سابقين ورجال أعمال، بتهم فساد، واعتقالهم في فندق “الريتز كارلتون، في سابقة لم يشهدها تاريخ السعودية “.
ونشرت صحيفتا “الاقتصادية”، و”سبق” الإلكترونية السعوديتان، 5 نوفمبر، قائمة بأسماء أبرز الأمراء والوزراء ورجال الأعمال الموقوفين بالسعودية للتحقيق معهم في قضايا فساد.
وأشارتا إلى أن من بينهم الملياردير السعودي الأمير الوليد بن طلال، والأمير متعب المعفى من منصبه، وإبراهيم العساف وزير الدولة الحالي، وزير المالية السابق.
ومن أبرز الموقوفين أيضا: عادل فقيه وزير الاقتصاد والتخطيط المعفي قبيل اعقاله ، وخالد التويجري رئيس الديوان الملكي السابق، ومحمد الطبيشي رئيس المراسم الملكية في الديوان الملكي السعودي سابقا، وصالح كامل، الوليد الإبراهيم مالك مجموعة mbc، خالد الملحم المدير العام لشركة الخطوط الجوية السعودية السابق، بكر بن لادن رئيس مجموعة بن لادن، ورجل الأعمال محمد العمودي.
وقال النائب العام السعودي 9 نوفمبر من الشهر نفسه، أن عدد الأشخاص الذين جرى توقيفهم على خلفية قضايا فساد بلغ 208، تم إطلاق سراح 7 منهم، “لعدم وجود أدلة كافية”، وبين ان التحقيقات التي استمرت 3 سنوات أظهرت تبديد ما لا يقل عن 100 مليار دولار في عمليات فساد واختلاس.
ويوم 23 نوفمبر، كشف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أن 95% من الموقوفين بتهم الفساد في المملكة وافقوا على التسوية وإعادة الأموال للدولة.
وأشار بن سلمان إلى أن نحو 1% من الموقوفين أثبتوا براءتهم وانتهت قضاياهم، في حين أن 4 % منهم أنكروا تهم الفساد وأبدوا رغبتهم بالتوجه إلى القضاء.
وبعد تلك التصريحات بخمسة أيام، وتحديدا يوم الثلاثاء 28 نوفمبر، بدأت تتواتر أنباء في بدء الإفراج عن المعتقلين، في أعقاب نشر الأميرة السعودية، نوف بنت عبدالله بن محمد بن سعود، تغريدة عبر حسابها في “تويتر”، ألمحت فيها إلى الإفراج عن الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان موقوفًا مع عدد من الأمراء والمسؤولين بتهم تتعلق بالفساد.
وجاء في تغريدة الأميرة، وهي شقيقة زوجة الأمير متعب: “الحمد والفضل والمنة لله رب العالمين. دمت لنا سالماً يا أبو عبد الله. #متعب_بن_عبد الله_بن_عبد العزيز”، وأرفقت صورة للأمير.
تلميحات الأمير السعودية عززتها تناقل وسائل إعلام غربية عدة عن مسؤولين حكوميين تأكيد الأمر، حيث أكد مصدر حكومي سعودي لشبكة CNN الأمريكية أن الأمير متعب غادر مقر توقيفه في فندق الريتز بالرياض.
وأكد المصدر أن السلطات السعودية توصلت إلى اتفاق مالي لم يُكشف عن تفاصيله.
وذكرت وسائل إعلام غربية، نقلا عن مسؤول سعودي مشارك في “الحملة” على الفساد أن الأمير متعب بن عبد الله قد أطلق سراحه بعد التوصل إلى “اتفاق تسوية مقبول”.
وفيما لم يكشف المسؤول السعودي عن مبلغ “التسوية”، تناقلت وسائل إعلام أخرى ترجيحها أن يكون المبلغ أكثر من مليار دولار.
وفي اليوم نفسه، نقلت وسائل إعلام عربية عن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، إنه تم الإفراج عن محمد الطبيشي الذي عمل رئيساً للمراسم الملكية حتى أعفاه الملك سلمان من منصبه في مايو/ آيار 2015، بعد صفعه مصورا صحفيا خلال استقبال العاهل السعودي لنظيره المغربي الملك محمد السادس، مؤكدة أن الطبيشي وافق على التنازل عن ممتلكات وأموال مقابل التسوية.
وقالت الصحيفة الأمريكية إن “التسوية” مع محمد الطبيشي قضت بتنازله عن مبلغ يصل إلى 6 مليارات ريال سعودي (1.6 مليار دولار)؛ كما قضت “التسوية” بنقل ملكية مزرعته “السامرية” في ضواحي العاصمة إلى أملاك الدولة، وتُقدر قيمتها بنحو 400 مليون ريال سعودي (106 مليون دولار).
ورغم أن الإفراج عن الأمير متعب والطبيشي جاء بعد تصريحات ولي العهد السعودي التي كشفت بما لا يدع مجالا للشك إن عملية الإفراج كانت مرتقبة، وأن الإفراج عن آخرين متوقع، وأن المسالة مسألة وقت فقط ، تتعلق بشأن اتفاقات التسوية والمفاوضات بين الجانبين على المبالغ الذي يجب استردادها أو أي بنود أخرى يجب أن يلتزم بها المتهمون في قضايا فساد.
*** الجوانب السياسية للصفقات
بدء الإفراج عن الموقوفين، بعد حملة شحن إعلامي مؤيدة للحرب على الفساد داخل المجتمع، أثار تساؤلات حتى عند كتاب مقربين من السلطة مثل تركي الحمد عن أسباب الإفراج عن معتقلين متهمين بالفساد بدون محاكمة وعقاب حتى لو ردوا المبالغ التي بددوها.
وقال الحمد في تغريدة عبر حسابه في تويتر: :”حين يقبض على لص سرق منزلا وتثبت إدانته،هل يقال له ارجع المسروقات وانت حر طليق؟ لا اظن.الأرجح أن يعيد المسروقات ويعاقب لفعل السرقة”.
وأردف في تغريدة أخرى مخاطبا ولي العهد :”سيدي سمو الامير..إن كنت تريد صدقية لدى الشعب..فحاكم من اختلس..ليس من المنطقي ان يخرجون بمبالغ مختلسة ويعيشون بقية العمر في رفاهية..من تثبت إدانته يجب أن يشقى..سرقوا أعمارنا وليس مجرد أموالنا..ارجو ان لا يكون حلما ما أعيشه”.
تساؤلات الحمد جاءت في إطار تساؤلات أوسع حول طبيعة اتفاقات التسوية، وما إذا كانت مجرد تسويات مالية أم أن لها جوانب وأبعاد سياسية.
ورغم أن ولي العهد نفى في مقابلة نيويورك تايمز أن تكون الحملة ضد الفساد تستهدف الإطاحة بمنافسيه تمهيدا لنقل السلطة له من والده، معتبرا: “إنهُ لأمرٌ مُضحك، أن تقول بأن حملة مكافحة الفساد هذه كانت وسيلةً لانتزاع السُلطة”، إلا أن عدم الكشف بشفافية عن تفاصيل اتفاقات التسوية يعزز الحديث عن الجوانب السياسية لتلك الصفقات.
وخصوصا إن هناك فريق ، يرى أن أحد أبرز أهداف الحملة تعزيز سيطرة ولي العهد السعودي، على مفاصل الدولة، تمهيدا لما سماه “نقل سلس للسلطة، في خطوة أصبحت قاب قوسين أو أدنى”، عبر اعتقال أو أقصاء المعارضين لسياساته، ومنهم الأمير متعب، ويطالب هذا الفريق بالكشف عن مضامين اتفاقات التسوية.
وفي المقابل هناك من يرى أن هذا الأمر مبرر ومفهوم، في ظل مراعاة أبعاد اجتماعية وشخصية للمعتقلين بل وحتى اقتصادية للمملكة بشكل عام ، مع الحرص على عدم تأثر النشاط التجاري والاقتصادي والاستثماري في المملكة.
*** المرحلة القادمة.. حرب جديدة أم تهدئة
أيضا يثير بدء الإفراج عن المعتقلين المتهمين بالفساد تساؤل حول طبيعة المرحلة القادمة في حملة مكافحة الفساد، فهل ستنتهي الحملة بإجراء تسويات مع المعتقلين الحاليين، تعقبها فترة تهدئة قد تكون “مطلوبة ” بعد أن حققت تلك الحملة كافة أهدافها ، باسترداد أموال الدولة، وتكريس الصورة الذهنية لولي العهد كمحارب للفساد، وإرسال رسائل لكافة الأطراف في الداخل والخارج تعزز التكهنات عن قرب انتقال السلطة في المملكة من الملك لولي عهده.
أم أن هناك قائمة أخرى تنتظر الدور وخصوصا في ظل حديث عن أن المعتقلين يتم محاسبتهم على جرائم ارتكبوا بعضها على مدار عقود مضت ، أم أنها حرب مفتوحة ضد الفساد .
** “الشفافية” الحاسمة
الإجابة على كل هذه التساؤلات، وتحديد المسار الحقيقي لحملة مكافحة الفساد، وأبعادها وجوهرها، يحددها – كما يطالب فريق من المحللين والمتابعين والموطنين السعوديين- الشفافية في التعامل مع تلك القضية، بالإعلان رسميا عن التهم الموجهة لللموقوفين، ومضامين اتفاقات التسوية التي عقدت معهم، وحجم المبالغ التي تم استرداداها.
وختاما، فأيا ما كان هدف الحملة على مكافحة الفساد، سواء كان هدفها الأساسي هو محاربة الفساد وحماية المال العام، وتكريس دولة القانون، أو كان هدفها بتعزيز سيطرة ولي العهد السعودي، على مفاصل الدولة، فإنها تبدو في كل الأحوال قد حققت تلك الأهداف جميعا، ولكن الفيصل في المرحلة القادمة هو كيفية إتمام تسوية المرحلة الأولى من الحرب على الفساد، وطبيعة المرحلة القادمة في الحرب على الفساد.
الأناضول