يجد فلسطينيون في الضفة الغربية، من إحدى مرتفعات محافظة بيت لحم (وسط)، مكانا لأفضل رؤية “عن بُعد”، لمدينة القدس والمسجد الأقصى، الذي لا تظهر منه سوى قبة الصخرة، ذهبية لامعة.
فالفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، يمنعون نهائيا من دخول مدينة القدس، دون تصريح إسرائيلي، يوضح بالتفصيل ساعة دخولهم وخروجهم منها.
ليس بعيدا عن النقطة المرتفعة، تنتصب بوابات عبور إسرائيلية تقطع امتداد جدار الفصل العنصري المحيط بالقدس؛ يتواجد فيها جنود إسرائيليون على مدار الساعة، منعا لدخول أي فلسطيني لا يملك تصريحا أو هوية “زرقاء” (يحملها المقدسيون وفلسطينيو 48).
ويبدو التهويد واضحا بحق المدينة، التي ظلت نقطة صراع بين حضارات قديمة منذ قرون خلت، بدءا من المعابر التي تفصل المحافظة عن الضفة الغربية.
وحتى قبل عقدين، كان فلسطينيو الضفة الغربية يصلون بمركباتهم الخاصة مدينة القدس دون الحاجة لتصريح، بل إنهم بحسب سكان
كانوا يستقرون بمركباتهم على شواطيء مدن حيفا ويافا المطلة على البحر المتوسط (غرب).
واليوم، ينتشر أكثر من 13 معبرا وحاجزا وبوابة تفصل الضفة الغربية عن القدس، أقيم معظمها في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.
وتظهر الأرقام الرسمية بوضوح، حجم التهويد و”الأسرلة” الذي تعرضت له المحافظة من الداخل، ما يجعل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، “رشة الملح الأخيرة” لعمل دام 69 عاما.
وأعلن “ترامب” في خطاب له مساء الأربعاء، القدس كوحدة واحدة عاصمة لإسرائيل، وأمر بمباشرة إجراءات نقل السفارة من تل أبيب إلى “العاصمة”.
التهويد بالاستيطان
ثمة طابع إسرائيلي صارخ على المرافق العامة لمدينة القدس (الشرقية والغربية معا)، باستثناءات قليلة، بينما المقدسيون يعيشون يوميا حرب التهويد.
“أصبحنا غرباء في مدينتنا”، يقول أحدهم.
ويُقصد بتهويد القدس، التغيير الكامل لمعالم المدينة الدينية والثقافية والجغرافية والتاريخية والبشرية، وطمسها ببصمة يهودية خالصة لإظهار أحقيتهم بها أمام العالم.
بوضوح، تظهر أرقام للإحصاء الفلسطيني صدرت قبل شهور، كيف كثفت إسرائيل من حضور المستوطنين في المدينة، لتكون مقر إقامتهم الدائم.
وفق الإحصاء، فإن عدد المستوطنين في محافظة القدس حتى 2016 بلغ 302 ألفا، تشكل نسبتهم 47.5 بالمائة من إجمالي المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة على حدود 1967.
وقبل 12 عاما فقط أي حتى نهاية العام 2005، ووفق تقارير ذات المؤسسة الإحصائية، فإن عدد المستوطنين الإسرائيليين في محافظة القدس، بلغ 210 آلاف.
لكن عدد المستوطنين في منطقة القدس (J1) وهي أراض احتلتها إسرائيل عام 1967، بلغ حتى نهاية العام الماضي 222 ألفا من إجمالي عددهم في المحافظة، مقارنة مع 117.5 ألفا في 1988 (أحدث بيانات متوفرة).
وتظهر الزيادة في عدد المستوطنين (قرابة 90 ألفا)، حجم التهويد الذي مارسته إسرائيل في السنوات الماضية كمثال، وتوفير المسكن لهم ببناء المستوطنات.
وتتسلق على جبال محافظة القدس، 25 مستوطنة منها 16 مقامة داخل أراضي المحافظة التي احتلتها إسرائيل عام 1967 التي تضم أحياء القدس الشرقية كافة.
هدف إسرائيل من تركز المستوطنات والمستوطنين في القدس، بحسب الإحصاء الفلسطيني هو خلق حقائق تمنع تقسيم المدينة مجددا، وليكون وجودهم العامل الحاسم في أي اتفاق مستقبلي.
تهويد بالتجارة والضرائب
يعيش تجار القدس العرب، في واحدة من أكثر الأسواق كلفة على أي مستثمر، بوجود نظام ضريبي مرتفع، وقوة شرائية متراجعة، وتحريض إسرائيلي بحق الأسواق.
والضرائب المترتبة على تجار القدس العرب، هي ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة، ورسوم رخص مزاولة مهنة سنوية، والأهم ضريبة المسقوفات “الأرنونا”.
تجار القدس وساكنيها، يدفعون ضريبة أرنونا “مسقوفات” عن كل متر لمحل تجاري أو مسكن يملكونه في مدينة القدس، وترتفع النسبة في حال يقع المتجر أو المسكن في منطقة تشكل أهمية لإسرائيل داخل المدينة.
محمد خضر، وهو باحث في الاقتصاد الفلسطيني، يقول لوكالة الأناضول إن بعض المحال التجارية، تتحمل ضريبة “أرنونا” سنوية تصل إلى 100 ألف شيكل (30 ألف دولار)، وهو مبلغ قد يفوق في بعض المحال إجمالي دخلها السنوي.
“لا مسوغ لهذه الأرقام المرتفعة سوى أنها شكل آخر لتهويد المدينة”، يقول خضر.
وتهدف إسرائيل من تضييق الخناق هذا بحسب تجار، إلى تفريغ الأسواق العربية من تجارها ومستهلكيها، خاصة في البلدة القديمة التي هجر تجار محالهم التجارية.
وتشير أرقام لغرفة تجارة القدس (أهلية)، إلى وجود أكثر من 240 محلا تجاريا في القدس الشرقية مغلقة تماما، “والرقم بازدياد”، بحسب “قرِّش”.
كذلك، فإن أكثر من 1700 محل تجاري تتواجد في مدينة القدس الشرقية، وتتوقف تماما عن العمل أمام أية توترات أمنية داخل المدينة مع الشرطة الإسرائيلية.
يضاف إلى ذلك، تحذيرات مستمرة لوكلاء السياحة الإسرائيليين، للزوار الأجانب بعدم دخول أسواق القدس العربية، بحجة وجود عمليات سطو قد تطالهم، يقول تجار.
وزاد الباحث الاقتصادي: “فوق كل ذلك، فإن حصول المقدسي على رخصة بناء قد يستغرق 10 سنوات للحصول على موافقة.. كذلك، رسوم ترخيص شقة سكنية قد تصل إلى 70 ألف دولار”.
التهويد بالهدم
تهويد المدينة طال المنشآت بحسب الإحصاء الفلسطيني، ففي 2016 هدم الجيش الإسرائيلي 309 مبان تشتمل على مساكن ومنشآت تجارية وصناعية وزراعية في مدينة القدس، كما وأصدرت 227 أمر هدم.
تقرير آخر لمؤسسة المقدسي لتنمية المجتمع (أهلية)، يشير إلى أن إسرائيل هدمت منذ 1967 وحتى نهاية 2015 أكثر من ألفي منشأة سكنية وغير سكنية.
ذات الإحصائيات، أظهرت أن عمليات هدم المنازل -وبالأخص الهدم الذاتي- هي الأخطر والأشد وتيرة، فمنذ عام 2000 وحتى 2015 أقدمت الشرطة الإسرائيلية على إجبار 346 مواطنا على هدم منازلهم بأيديهم.
ووصل إجمالي مساحات المنازل التي هُدمت (المنازل السكنية سواء أكانت قيد الإنشاء أو مسكونة) إلى نحو 24.6 ألف متر مربع، بينما بلغت مساحة المنشآت غير السكنية إلى 1974 مترا مربع.