مع استمرار الصراع المسلح في سورية، وفي ظل توازن عسكري لا يسمح بانتصار طرف على طرف، كما فرضته أطراف دولية؛ تراجعت إلى حدٍّ كبير البُنية التحتية الاجتماعية لسُنّة سورية في موازاة حالة مشابهة من التراجع في البُنية الاجتماعية لسُنّة العراق بعد غزو العراق، وفي مرحلةٍ لاحقة بعد اندلاع موجة الصراع المسلح الأخيرة بعد أحداث الموصل 2014؛ ويُخشى من تغيرات جذرية في البُنية الاجتماعية كتداعياتٍ متوقّعة لمعركتي تحرير الموصل والرقة.
وقد تؤدي معركة الرقة إلى حملة نزوح كبيرة لسكانها إلى تركيا أو شمال سورية بعيداً عن المراكز الحضرية المؤثرة في صياغة مستقبل سورية؛ وحملة نزوحٍ مماثلة لسكان الموصل إلى إقليم كردستان أو جنوباً باتجاه محافظة الأنبار يُساهم بشكلٍ متزايد في تحجيم دورهم في رسم مستقبل محافظتهم.
أثار تعدد الأطراف المشاركة في عملية استعادة الموصل واختلاف أهدافها، وتناقضها أحياناً، المزيد من الجدل قبيل انطلاقها وفي أثناءها؛ ومن المتوقع أنَّ واقعا من الصراعات المحلية والإقليمية المتداخلة ستكون العنوان الأبرز للصفحة التالية بعد الصفحة العسكرية؛ وإذا كانت الأهداف القريبة والبعيدة لمعظم القوى الفاعلة واضحة المعالم، تبقى الأهداف الإيرانية الأكثر غموضاً وإثارةً لمخاوف القوى السُنّية المحلية والعربية والإقليمية.
وترى إيران أنَّ الوجود الشيعي في المنطقة العربية يُشكل أقليّة متناثرة وسط أكثرية سُنّية متصلة جغرافياً؛ ولاختراق الجغرافية السُنّية لابدَ من إحداث تغييرات ديموغرافية في الكتلة البشرية للجغرافية التي يُشكّل العرب السُنّة غالبيتها العظمى، والتي تمتد من الموصل القريبة نسبياً عن إيران إلى مناطق شمال حلب مروراً بمدنٍ عراقية، مثل تلعفر وسنجار بموازاة الحدود مع تركيا في سورية والعراق.
وعلى امتداد الجغرافية التي تستهدفها إيران، فهي تعمل على تعزيز ودعم وإحداث تواجد لمراكز قوى موالية لها على امتداد هذه الجغرافية من خلال تعزيز بؤر التواجد الكردية الحليفة لها والقائمة أصلاً، وخلق بؤر شيعية طارئة بتمكين ما يمكن أنْ نسميه الشبكات الإيرانية التي تمثلها أحزاب أو شخصيات أو مجموعات مسلحة شبه عسكرية تلتقي على الولاء لإيران وتنفيذ سياساتها.
واستطاعت إيران خلال العقود الماضية تأسيس بنى متينة لمثل هذه الشبكات تغلغلت في مفاصل بعض الدول حتى باتت تمثل أحياناً دولة الظل، كما هو حال حزب الله اللبناني، أو دولة داخل الدولة؛ أو هو الدولة ذاتها، كما هو متوقع لدور الحشد الشعبي مستقبلاً بعد أنْ تحوّلَ الجيش العراقي، إلى جيشٍ رديف للحشد الشعبي شبه العسكري؛ وهي حالةٌ غير مسبوقة في التاريخ المعاصر حيث تتشكل جيوش شعبية أو شبه رسمية كرديفٍ مؤازر لمؤسسة الجيش التابعة للدولة، وليس العكس.
ليس ثمّة مؤشرات على وجود تهديدات جدّية على الأمن القومي الإيراني مصدرها العراق، لكنّ إيران وظّفت ما لديها من إمكانيات لبناء تحالفات ومدّ جسورٍ حتى مع قوى سُنّية في العملية السياسية وخارجها لتمرير مشروع تمددها؛ في مقابل ذلك، فإنّ تركيا تتعرض لتهديد جدّي مزدوج من تنظيمي داعش وحزب العمال الكردستاني انطلاقاً من أرض محافظة نينوى، ومع هذا فقد التزمت تركيا بواجبها في الدفاع عن أمنها القومي وفق رؤيتها بآلياتٍ بعيدةٍ عن الآليات التي اتبعتها إيران التي سيشكل نفوذها الجديد التهديد الجدي الثالث للأمن القومي التركي، والذي سيمثله سيطرة الحشد الشعبي على مناطق في تلعفر ومحيطها، 60 كيلومتراً غرب الموصل، كموطئ قدمٍ للنفوذ الإيراني بتحالفٍ عميق مع حزب العمال الكردستاني الذي يتمركز في بعض أجزاء قضاء سنجار، 130 كيلومتراً شمال غربي الموصل على مقربة من الحدود التركية شمالاً والحدود السورية غرباً.
وتنطلق تركيا في اهتمامها المتزايد بمعركة الموصل من رؤيتها في العمل على ضرورة حماية السكان والحفاظ على التركيبة الاجتماعية ومنع حدوث جرائم وانتهاكات على خلفياتٍ طائفيةٍ أو قومية؛ كما ترى ضرورة العمل على منع تسلل العناصر الإرهابية إلى الأراضي التركية أو حدوث موجة نزوح سكاني خارج استعدادات الحكومة التي تستضيف عدّة ملايين من الناحين العراقيين والسوريين.
سيبقى التدخل التركي المباشر رهن ما ستفرزه العمليات القتالية التي حتى الآن لا يبدو أنَّ هناك ما يشكل تهديداً جدياً مباشراً للأمن القومي التركي جراء تداعيات المعركة؛ وقد تلجأ تركيا إلى إقامة منطقة عازلة على حدودها مع العراق في حال دخول الأطراف المتصارعة حرب شوارع داخل المدينة تُعرِّض حياة آلاف منهم للموت، وسيتطلب ذلك فتح ممرات آمنة لخروج المدنيين بضغوطٍ من المجتمع الدولي، أو الدول الإقليمية والولايات المتحدة.
ومن بين التهديدات الجدّية الأخرى التي تتعرض لها تركيا، انتقال مئات المقاتلين من حزب العمال الكردستاني إلى محيط قضاء سنجار واحتمالات التنسيق مع الحشد الشعبي في محيط تلعفر وغرب الموصل ليُشكلا معاً قوّة قتالية واحدة؛ إضافةً إلى احتمالات تنامي حالات التطهير القومي أو الطائفي أو انتقال مقاتلي تنظيم داعش إلى مناطق قريبة من الحدود التركية؛ لذلك تسعى تركيا لوضع ترتيبات تسبق الانتهاء من العمليات القتالية لتأسيس ما يُشبه الإدارة المحلية لمحافظة نينوى تتشكل من قوى متنوعة تمثل مكونات المحافظة كبديلٍ مقبول من سكانها يُخفّف من حالة الخوف التي يعيشها سكان المحافظة من عودة الملف الأمني داخل الموصل إلى الشرطة الاتحادية، كما كان عليه الحال قبل أحداث 2014 والتجربة المريرة التي عاشها سكان المدينة نتيجة السلوك الطائفي في تعامل الشرطة الاتحادية ووحدات من الجيش العراقي.
لجأت الكثير من القوى السُنّية لبناء تحالفات مع إيران بشكل مباشر، أو عن طريق تحالفات مع كتلٍ سياسية وأحزاب شيعية متنفذة حليفة لإيران، إضافة إلى تحالفات هامشية مع بعض الدول العربية وغير العربية التي استقطبت بعض القوى السُنّية خدمة لمصالحها وتوجهاتها وتنفيذ سياساتها التي لا تتفق بالضرورة مع مصالح العرب السُنَّة؛ ما انعكس على عموم القوى السُنّية وأدخلها في حالةٍ من التشتت والضعف خلافاً للكتل الشيعية التي بنت تحالفاتٍ واثقة مع القوتين الأكثر فاعلية ونفوذاً في العراق، إيران والولايات المتحدة.
وللخروج من هذه الحالة، لابد للقوى السُنّية من بناء تحالفاتٍ عميقةٍ مع كل من المملكة العربية السعودية وتركيا بصفتهما لاعبين إقليميين سُنيّين فاعلين؛ ويمكن لتحالف كهذا إذا ترافق مع مغادرة القوى السُنّية حالة الشتات التي تعيشها أنْ يكون معادلاً موضوعياً في توازن القوى والنفوذ بين العرب السُنّة والشيعة من جهة، وايران وكلٍّ من تركيا والسعودية من جهةٍ أخرى؛ وهما دولتان ترتبطان بعلاقات استراتيجية وتحالفات مع الغرب والولايات المتحدة يؤهلهما بتنسيقٍ مشترك أنْ تكونا لاعبين أساسيين في رسم خريطة المنطقة التي تشهد متغيرات متسارعة تقتضي منهما العمل بجهد إضافي لمواكبة المتغيرات واللحاق بها.
بإمكان تركيا والمملكة العربية السعودية أنْ تلعبا هذا الدور استجابةً لرؤية سُنيّة عراقية تقترب من حالة الإجماع على ضرورة مثل هذا الدور لبناء توازنات في الساحتين العراقية والإقليمية على أقلّ تقدير؛ كما أنَّ تحالفاً كهذا يمكن أنْ تتسع دائرته لتشمل سُنّة سورية، وهي ساحةُ صراع نفوذ إقليمي أخرى مشابهة لساحة الصراع العراقي من حيث توصيف طبيعة هذا الصراع والأطراف والمكونات الطائفية والقومية الفاعلة فيه.